تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الحساب المفتوح

إضاءات
الثلاثاء 22-12-2015
سعد القاسم

أواخر عام 1978، وبعد أسابيع قليلة من توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» التي هدفت بالدرجة الأولى إلى إلغاء حالة العداء بين مصر والكيان الصهيوني، عرضت القناة الإسرائيلية الثانية تقريراً متلفزاً عن مصر أعده مندوبها الخاص عقب أول زيارة يقوم بها إليها.

للوهلة الأولى بدا التقرير وكأنه تعبير عن نظرة جديدة مسالمة لعدو الأمس، خاصة أنه كان أقرب إلى التقرير السياحي الذي يعرض ما هو فريد و وغريب و مميز في البلد الذي يصوره، لكن مع وصول التقرير إلى دقائقه الأخيرة يتجه المندوب التلفزيوني إلى لوح حجري أثري، ويقوم بمسحه بكف يده في حركة استعراضية، كمن يزيل الغبار عنه، لافتاً الانتباه إلى نص منقوش عليه باللغة المصرية القديمة (الهيروغليفيه)، ليستدير بعد ذلك نحو عدسة الكاميراشارحاً للمشاهد أن النص المنقوش على الحجر الأثري يحكي عن صد المصريين عام 1218 قبل الميلاد، بقيادة ملكهم « مرنبتاح بن رمسيس الثاني»، لاعتداءات قبائل يهودية على الأراضي المصرية، وطردهم خارجها، ثم يختم تقريره قائلاً بلهجة منتشية: «ها قد عدنا يا مرنبتاح »!!‏

لم تكن استعارة مقولة شهيرة بدلالاتها التاريخية العدوانية هي ما يستوقف المشاهد، وإنما تلك الروح المشبعة بالحقد التي تحمل نفساً ثأرياً، يزيد عمره عن ثلاثة آلاف سنة، تجاه بلد من المفترض أنه لم يعد عدواً. تلك الروح هي ما كان يجب أن تلفت انتباه الباحثين والمحللين السياسيين الغربيين الذين استهجنوا رفض قطاعات واسعة من الشعب المصري فكرة التطبيع مع العدو الصهيوني، لا موقف تلك القطاعات المصرية التي ما تزال ذاكرتها النضرة تعتصر بألم صور الجنود المصريين الأسرى المكبلين فوق رمال سيناء الحارقة قبل أن تسحقهم جنازير الدبابات الصهيونية بوحشية لا مثيل لها، وصور العمال وأطفال المدارس من أبناء شعبهم الذين حولتهم قنابل الطائرات الإسرائيلية إلى أشلاء خلال سلسلة من الاعتداءات الصهيونية المريعة التي طالت المعامل والمدارس وأماكن السكن ما بين عامي 1967 و1970.‏

مندوب القناة الإسرائيلية الثانية كان يُعبّر في واقع الحال عن الروح العنصرية الصهيونية التي تسعى لتكريس فكرة التفوق الصهيوني في ذهن الأصدقاء قبل الأعداء، وهي الروح ذاتها التي دفعت صحيفة «يديعوت أحرنوت» لتنشر خبر اغتيال الشهيد سمير قنطار تحت عنوان «إغلاق الحساب »، فالفكر الصهيوني يعتبر أن التصدي لليهودي في أي زمان جريمة لا تسقط بالتقادم، تحمل وزرها الأجيال التالية ولو بعد آلاف الأعوام، وهو ما يبقي هذا الفكر عدواً لأبناء المنطقة مهما حاولوا مهادنته، وهو ما يدفع بالكيان الصهيوني للاستمرار بالتآمر على مصر حتى بعد توقيع اتفاق سلام معها، و العمل عن طريق أجهزته السرية، ووكلائه، على تفتيت بلاد الرافدين ومحو الذاكرة التاريخية لأحفاد البابليين عبر تدمير وإخفاء تراثهم الفني والمعماري، والسعي لتدمير روح المقاومة لدى أبناء المنطقة، بدءاً من فلسطين المسلوبة، وغرس روح الإحباط والعجز في أجيالها المتتالية..‏

بدءاً من المجازر الوحشية ضد المدنيين العزّل في القرى الصغيرة وصولاً إلى الحروب العدوانية الكبيرة، فإن كل الاعتداءات التي تعرضت لها بلادنا بعد غرس الكيان الصهيوني في قلبها، انطلقت من مسعى تدمير روح المقاومة وإشاعة الشعور باليأس والعجز واللا جدوى، ومن ضمن هذا المسعى عملية اغتيال الشهيد سمير قنطار، لكن هذه العملية بكل ما أعد لها من وسائل، وبكل ما حققته من نتائج، هي الدليل الذي قدمه الكيان المعادي، من غير أن يقصد، على فشل (الحلم الصهيوني).فالبطل قنطار لم تهز روح المقاومة فيه تسعاً وعشرين سنة من الأسر، هي أجمل سنوات عمر الإنسان، عمل خلالها سجانوه، على زرع فكرة أنه حين يقاوم، كواحد من (الأغيار)، غزاة غاصبين يعتبرون أنفسهم أعلى مرتبة من سائر البشر، فإنه يرتكب جريمة لا تغتفر..فلما خرج من أسره الطويل كانت كلماته الأولى: « لم اعد من فلسطين إلا لكي أعود الى فلسطين»، و لم يفوت فرصة بعدها إلا وأكد فيها أنه عائد إلى ساحات الكفاح ضد العدو الصهيوني إلى أن ينال الشهادة، وكان عند وعده..‏

في سيرة حياة الشهيد قنطار جانب آخر يؤكد أن الحلم الصهيوني بتدمير روح المقاومة يفتقد فرصة التحقق، ذلك أنه حين وقع سمير قنطار في الأسر إثر عملية بطولية على الشاطئ الفلسطيني المحتل قبل ست وثلاثين كان ينتمي إلى واحدة من المنظمات الفلسطينية التي لم تكن تملك إمكانية تحريره من الأسر، وما هو إلا وقت قصير حتى اختفت تلك المنظمة عن الوجود كلياً وبدا مع اختفائها أنه فقد فرصة وجود من يسعى لتحريره، خاصة أنه خلال السنوات التي أمضاها في الأسر حصلت تحولات كثيرة على الساحة الفلسطينية فتراجع الكفاح المسلح، وانخرط كثير من الفلسطينيين في معارك لا تمت إلى قضيتهم بصلة، وتعاون عدد غير قليل مع العدو الصهيوني، غير أنه بالمقابل ابتدع أصحاب الفكر المقاوم أشكالاً جديدة من الكفاح،فكانت الانتفاضة الأولى فالثانية، ثم انتفاضة السكاكين الحالية. وظهرت قوى أكثر تنظيماً وخبرة بالتعامل على العدو فأجبرته على أن يطلق سراح سمير قنطار بعد نحو ثلاثة عقود لم يتوقف فيها قادة الكيان على تأكيد أنه لن يرى الحرية أبداً.‏

اغتالت إسرائيل المناضل العربي سمير قنطار، وقبلها بسنوات قتل عملاء الولايات المتحدة المناضل العالمي «إرنستو تشي جيڤارا» فسكنت روحه في أرواح أحرار العالم، وصارت أيقونة للكفاح ضد الظلم والعدوان..‏

وهذا ما ستصير إليه روح سمير www.facebook.com/saad.alkassem">قنطار..‏

www.facebook.com/saad.alkassem

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية