|
شؤون سياسية عززت التطورات الدولية التي تتالت بُعيد انهيار المعسكر الشرقي لدى بعض ساسة الولايات المتحدة, فكرة أن التاريخ قد فتح لهم الأبواب على مصراعيها لادارة حقبته الجديدة, وربما لم يكن في الحسبان الأمريكي أن مفرزات الساحة الدولية الجديدة, ستولد صراعات على امتداد العالم, صراعات وصفت بأنها مقننة بفعل توازن الرعب الذي كان سائدا في سنوات الحرب الباردة, ولايمكن احتواؤها بسهولة, إلا أن ساسة البيت الأبيض تجاهلوا هذه الحقيقة, وعليه بدأت عملية ترتيب ساحة حربهم الجديدة, وباتت واشنطن كما يرى بعض منظريها, بحاجة إلى ميدان خارج حدودها لتفريغ قوتها المتراكمة, وهكذا بدأت بالفعل ملامح المرحلة الأمريكية الجديدة وسط التحولات التي ألقت بظلالها على العالم برمته, والتي كان معظمها ذا مرجعية علائقية مع منطق القوة الذي انتهجه صقور واشنطن.. اذاً ما أسباب ومقومات ومشروعية استراتيجية البنتاغون الجديدة -الطويلة الامد- ? وهل من المعقول والممكن ان يستمر الفكر الدولي في استسلامه للعبة الكونية الراهنة و لظاهرة القطب الواحد في عالم متعدد المصالح والشركاء? ولماذا أ ُخذ وُيؤخذ البعض منا حتى الان باللحظة الأمريكية الراهنة??. (إذا أحسستم بقلبكم أو بعقلكم بشكل واضح ان قصف الولايات المتحدة للفقراء الجائعين الأبرياء تصرف مرعب مرفوض ولن يحمل للشعب الأمريكي أي أمن, فعليكم الاعتراض عليه بأي طريقة ممكنة من دون ان تشعروا بأي قلق من تسميتكم غير وطنيين.) بهذه الكلمات أطلق الكاتب وليام بلوم الأمريكي صرخته, وهو من اكثر الأمريكيين جرأة في فضح السياسة الأمريكية متوجهاً بها إلى الشعب الأمريكي, مع علمه المسبق ان قلة منهم سيستجيبون لدعوته تلك التي وجهها عقب حرب أمريكة على أفغانستان, متوقعاً حينها المزيد من الحروب الأمريكية, لان الرغبة الأمريكية الجامحة لإسقاط المزيد من القذائف وإشعال النيران - حسب وليام بلوم - رغبة لا تهدأ, وهذا ما حدث بالفعل باحتلال العراق, الذي نال و مازال ينال نصيبه من نيران الطائرات الأمريكية الديمقراطية, ومدافع الفتن وصواريخ الحرية الذكية منها والغبية. ولولا ان الشعب العراقي قال كلمته في العراق, لكانت تلك النيران اليوم تندلع في أماكن أخرى في المنطقة, وتبدو إيران المرشحة الأوفر حظا للهيب أمريكي من نوع ما. ولكن إذا كانت كل التحليلات السياسية ترجح ان فشل المشروع العسكري الأمريكي في العراق قد طرح استراتيجية أمريكية تبتعد قدر الإمكان عن الحرائق الملتهبة مقابل إشعال حرائق سياسية تؤمن الهدف ذاته لمشروع الهيمنة, فيبدو السؤال هنا ضرورياً هاماً ملحاً; لماذا أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون مع فجر عام 2006 عن استراتيجية اسمها بالمفهوم السياسي الأمريكي (استراتيجية دفاعية) لكن مضمونها على الإطلاق لا يمكن ان يكون إلا استراتيجية هجوم وانقضاض, حيث تتضمن تلك الاستراتيجية, خطة جديدة تقضي بتصنيع أسلحة طويلة المدى ?? الولايات المتحدة وكما هو معروف تملك اكثر الأسلحة تطوراً في العالم, ولديها الغواصات ذات التسليح البعيد المدى التقليدي وغير التقليدي, لا يخلو منها بحر أو محيط في هذا الكوكب, كما ان القاذفات الأمريكية تستطيع غزو السماء الرحبة, وضرب أي هدف في العالم, ولا مجال هنا للوقوف طويلاً مع نوعية وكمية الأسلحة الأمريكية, لكن السؤال كان; إذا كانت أمريكة تملك كل هذا الكم والنوع من الأسلحة فلماذا المزيد?? إنها الاستراتيجية الجديدة.. الحرب الطويلة الأمد وهذا ما أتحفنا به جورج بوش في أحد خطاباته هذا العام مبشراً العالم بالحرب الطويلة . تحمل الاستراتيجية التي قيل انها ستستغرق أربعين عاماً حسب بوش, خططاً لكيفية نشر الجنود الأمريكيين وبصورة سرية في الكثير من البلدان في ذات الوقت والحجة, محاربة الإرهاب تارة والمعتدين على حقوق الانسان تارة أخرى, وربما يبدو التلميح الأخير حول استصدار قرار من مجلس الأمن لنشر قوات أمريكية عبر الأمم المتحدة في دارفور من صلب تلك الاستراتيجية, كما يبدو استهداف الصين كقوة كبرى مرشحة لمنافسة الولايات المتحدة عسكرياً, وهذا ما تحذر منه كل الدراسات الاستراتيجية في واشنطن في قلب الخطة الجديدة حيث تدعو الخطة لنشر قوات جوية, يمكنها القيام بضربات بعيدة المدى بأسرع وقت . فهل نلمح تحولاً هنا في استراتيجية البنتاغون الطويلة الأمد ?? ربما تبدو الخطة منطقية بالنسبة لواشنطن, باعتبارها تلتقي إلى حد كبير مع التقرير الذي نشرته سي آي إيه حول شكل العالم في العام 2020 , ودور الولايات المتحدة في صياغته والذي تمحور حول صعود قوى عالمية جديدة منافسة للقوة العظمى .. آثار العولمة .. وبروز تحديات جديدة للنظم الحكومية .. وانعدام الأمن .. وتغير طبيعة الإرهاب ..إذاً الإرهاب من جديد أولوية الأولويات في الصناعة السياسية في أمريكا, هذا التحدي الذي بات يشبه السهل الممتنع والذي بقدر ما يعطل السياسة الأمريكية ظاهرياً يخدمها ويمدها بأساليب جديدة للهيمنة على العالم. ويبدو هذا التحدي المحرك الأساس على تعدد المحركات وتنوعها لصياغة الاستراتيجيات الأمريكية وخاصة العسكرية, وبالتالي يبقى على رأس الأولويات الأمريكية, علماً ان الكثير من المحللين, وحتى في الولايات المتحدة باتوا يجزمون بان الإرهاب هو العدو الوهمي أو البديل الطبيعي المنطقي للاتحاد السوفييتي , وباتوا يؤكدون فكرة ان واشنطن كقوة عظمى لا تستطيع ان تكون قوة عظمى إذا لم تضع العالم في صراعات متعددة تتفرع عن عدو شيطاني شرط ان تدير المعركة وتنخرط فيها إلى أقصى الحدود, بحيث تصبح المتحكمة والممسكة بكل خيوطها. وبالتأكيد الموضوع لا يتوقف عند حدود إدارة اللعبة, وإنما الأهم هو مكاسب هذه المقامرة الدولية . وهنا ومع غياب الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة, بدا الإرهاب أنسب صيغة ممكنة لاختلاق عدو و إعلان حرب طويلة الأمد عليه انطلاقا من مركز القوة في العالم, أي واشنطن ليتفرع هذا الصراع على امتداد العالم . إذ إن ساحة المعركة في حرب من هذا النوع لا تقف عند حدود, ولكن أهم ما في اللعبة الكونية هذه هو تثبيت فكرة المركز العالمي المتمثل بالقوة العظمى الامبراطورية, ومن هنا لن تكل واشنطن من تطوير سلاحها وخططها ومن إيهام العالم بأسره ان هناك عدواً هائما يستهدف الجميع وخطراً كونياً يسمى الإرهاب, في حين ان واشنطن وحدها تعلم كلمة السر الخاصة بهذه الظاهرة وتعويمها, وبما أننا بدأنا هذا المقال بجمل لوليام بلوم فنورد هنا أيضا وبالحرف ما قاله هذا الكاتب اليساري الأمريكي الجريء فيما يخص تعامل واشنطن مع الإرهاب حيث يقول: (أمريكا ملجأ للإرهابيين, و إذا كان بوش يكرر غالباً هجومه وانتقاداته تجاه دول يتهمها بإعطاء ملجأ للإرهابيين, فكيف يجرؤ على ذلك, وهل هناك دولة في العالم تمنح ملجأ للإرهابيين بالقدر نفسه الذي تمنحه الولايات المتحدة, فهناك عشرات آلاف الإرهابيين الكوبيين المنشقين الذين يعيشون في ميامي بعد ان نفذوا المئات بل الآلاف من العمليات الإرهابية ضد كوبا وداخل الولايات المتحدة نفسها ومن بينها الاغتيالات والتفجيرات وهم يعيشون في ميامي وفلوريدا بأمان منذ عشرات السنين إلى جانب أصدقائهم الإرهابيين الآخرين الذين خرقوا حقوق الانسان في غواتيمالا والسلفادور وهاييتي واندونيسيا وكل مكان تحالفت فيه الامبراطورية الأمريكية مع الآخرين- ف A.I.C- التي تقول انها تبحث عن الإرهابيين في الكهوف والجبال في أفغانستان, تشرب الأنخاب في الوقت نفسه مع الإرهابيين الذين تحميهم في حانات ميامي, وفي ضوء كل هذه الوقائع, كيف يمكننا فهم سياسة حكومتنا الأمريكية? ويتابع: لو كان علي تأليف كتاب, يحمل عنوان (الامبراطورية الأمريكية), لكتبت في الصفحة الأولى منه; أيها القارئ, لا تهتم مطلقاً بما يقال عن العامل الأخلاقي في السياسة الأمريكية, فالسياسة الخارجية الأمريكية, ليس فيها أي عامل أخلاقي في تكوينها الأساسي, وحرر عقلك من تلك المتكدسات التي تصادفها في العناوين العريضة). ويمكن اختصار الإجابة التي قدمها بلوم, بأنك يجب ألا تسأل عن الأخلاق في السياسة الخارجية لأنها خالية من الأخلاق, ولكن ما الجديد في هذه السياسة التي يصفها وليام بلوم? هل كانت السياسة الأمريكية يوما غير ذلك, أي هل اتسمت عبر تاريخها بالأخلاق ! في الحقيقة أمريكا لم تكن يوماً تمارس سياسة أخلاقية, أو لا إرهابية, وهذا على ما يبدو ارث تحافظ عليه كل الإدارات المتلاحقة التي سكنت البيت الأبيض, والتي كانت لاتزال تنظر إلى العالم بفوقية تسيطر عليها نزعة الإمبراطورية, وتختصر كل مصالح العالم بمصلحتها بغض النظر عن الحرائق التي تشعلها في طريق تحقيقها لنشوة التفوق تلك, وليس غريباً بالتالي, ان تحاول في خطتها الاستراتيجية الجديدة تطويق كل القوى الصاعدة على الساحة السياسية الدولية قبل ان تصل تلك القوى إلى مرحلة تعلن نفسها فيها كقطب آخر, وإلا فلماذا كل هذا الخوف من التنين الأصفر, أو حتى من تحالفات إقليمية ترمي فقط إلى حماية تمايزها وتحصين مكوناتها الحضارية والوجودية من زحف التتار والهمجية وغواية الإمبراطورية الحديثة??! * إعلامي سوري |
|