|
كتب بهذه الكلمات يفتتح الشاعر عادل محمود قصائده المسبوقة بعنوان دال هو (انتبه إلى ربما) نص افتتاحي يحيلنا إلى التنبه إلى قصدية القول الشعري, فالقول والقصد هنا وسيلة فحسب للوقوف على (الكلمات وقراناتها) ومن ثم على الدلالة ذهاباً أليفاً للمجاز فهو امتياز الشعر وانشغاله الجمالي والرؤيوي في آن. وبعيداً عن الدلالة النحوية (لربما) من أنه حرف خفض, فإن الشاعر في ارتكاباته لاثنين وعشرين نصاً مترعاً بالمعنى واصطياد الصور الرهيفة, لايخفي البتة سبره لذائقة القارىء.. كما الناقد أيضاً, ولعله امتحان سيواجه تلك النثرية العالية, سواء بالكلمات المثقفة أو الاستعارات والكنايات والانزياح في غير مكان, أو بالغنائية الخافتة التي تتردد في أجواء القصائد.. في أقاصيها وأعماقها, إذ لا سطوح وصفية محايدة, بل يذهب فعلها الشعري لتشكيل (النصوص) المستنبتة في العراء ومن كيمياء الصمت, لتصوغ تأملاتها الباذخة, وحيوات مضاعفة, وأفكاراً وأسئلة. إذن .. إنه الشعر في كثافته ودهشته واحتماله, وبسائر ممكناته من البداهة إلى البلاغة إلى الكثير من الاختلاف الهادم لتقليدية التفكير كما الكتابة, فهل نحظى بتأويل هنا, بمعنى القياس والمقاربة لاحتمالات تشي بها (ربما) تقليلاً أو إكثاراً, كما ذهبت الدلالة النحوية?! كان أراغون يقول:( إن شعر شاعر اليوم, هو نثر الناس العاديين في الأيام الآتية). لكن عادل محمود وهو يمزج الشعر بالنثر, ويجترح قصيدة رؤيا, لا يدعونا لنتلقف نصوصه مجاناً, ولاسيما في ثنائيات يشكلها الحلم والبراءة, القلق والبوح, الفكر, ترجيعات (الأنا) ومعادلها الموضوعي, الحرية. في »الغياب) بمساحته الوافرة, تتكامل الرؤية في إيقاعها ووزنها, إيقاع الدلالة وإيقاع اللغة ذاتها: »يحدث أحياناً ألا يعود المسافر, يظل قلب المسافر لاجئاً في نجمة حتى الأبد).. وأيضاً »الندم خطأ على بياض ارتكاباتنا, ليس يمحوه أي شيء, غير معجزة الميلان البهي عن طريق الحسرات). واللافت في نصوص لاحقة, طبيعة الخطاب الشعري الموجه إلى الأنا, والنحن كخارطة استدلال لضمائر شتى, تجتمع كذلك في »الهو) وال »هم) وسوى ذلك:»وهكذا أينما توجهتهم, ولكي لاتضلوا في متاهة الشبكة.. ثمة من في عتمة الحياة يضيء.. و»أنا أول صانع للوتر الغنائي في آلة عشتار.. وأنا صانع أول سنبلة من مصادفة.. الحنو على حبة قمح ونملة). »نحن) بعد مائة ألف سنة.. وبضعة هنيهات (ريثما أنهي كلامي عنهم).. كانوا.. »نحن) وكذلك فالأنثى الحاضرة, تتعدد مكانتها وتتعدد وظيفتها وصورها, الحبيبة أم المدينة بنقائضها ووحشتها, والذاكرة تروي اللامفكر به, إذ يقف الشاعر في اللامسافة ليرى إلى الحالات والأشياءالغامضة, الواضحة, بمجازه المركب معايناً اللامرئي, الخرافي, في نزوعه للسرد وبناء الحكاية بوحداتها السردية الشعرية, نزوع مضمر للقص, لاسيما في »الضيق, النزهة, الجد, الطريق, الثدي). بفائض الشعر والجسد والرؤيا,والرغبة الملحاح في التكرار:»الرجل المتجمع من مفردات في لغة ضيقة, الرجل المتواتر في أحاديث صادقة, الرجل المتوفر في الصفحات الضيقة). انتبه إلى ربما, نصوص تحتفي بالمشهديات وبالأصوات وبتراجيديا حياة فرت من سطورها سوف تنتظم في أنساق »حكايات صغرى) تتجلى مثالاً في »الجندي) الأغنية, اليقين, الجد). ولا ريب أن محاكاة الوعي الجمعي, لن يتخفف- لدى الشاعر- من انزياحات »الأنا) بل يتفرد بها واقتراحاتها الجمالية التي تنسحب على مكان وذاكرة وكلمة وتتعدد كما في »الفنار), لتعطي صفاتها وحركة أفعال المتواترة »شهقت, ارتفعت, فنهضت, فقمت وهكذا نصوص هي شظايا نشيد يطل منه الشاعر على ما يريد, وما يريده رغبة عالية في أن يحرر قارئاً ما, ما انتهى بين قوسين ليشتركا معاً في قصد الشعر, أي بانكشاف النص وإحراز صورة تدفع ليقين إضافي قد يزيل غموضاً محتملاً. هي حالة تفسيرية, عتبة تحرز بؤرة للنص وشذرات ذلك النشيد الخفي السري بفائض غياب حضور, جدلية لا تنتهي.. إنها.. »ربما) في كثافتها الفلسفية/ الشعرية, التي لا تكتفي بما يريده الشاعر منها, من الانتباه أو معارضة النسيان. انتبه إلى ربما بقيمها المضافة, يبرع فيها الكلام, أي في حذف ما ينتهك التأويل, لنظل على مسافة من ممكن الشعر, كفعل حرية تنتصر للروح المثلومة, وتتفلت من إيقاع »الحرب والسلام) وغوايتهما, إلى إيقاعها هي: رعشة الحياة الآتية من كلية الأصوات, ومن أسئلة لا تقف حائرة أمام الجمال. عادل محمود, الكلي البياض, يجاورنا بنثره وشعره, ويقودنا »لسفر أفعال ناقصة) يحاورنا خارج لحظة الشعر الحزين والظرفي, ببداهة الانتباه لليومي والتاريخي المستقبلي, وربما نكتفي كقراء محتملين من الإشارة/ السهم النافذ من رمح الكلمات لكن الشعر بكمال تجريده وهو ينثر حدوسنا, ما ينفك يتواطأ مع الحياة في بكائنا الداخلي, وسخريتنا المضادة بوسائلها اللغوية, ودراميتها الباهظة. ** الكاتب: عادل محمود. الكتاب: انتبه إلى ربما- شعر - الطبعة الأولى 2006 الناشر: ورد للطباعة والنشر والتوزيع- دمشق |
|