|
كتب أي اللغات تشعبت واستطالت وأتت هذه الثمار وكان لها شرف إنقاذ (آدم) من صمته ومن ثم جعلته أمماً وقبائل.. نعم في البداية كانوا يقولون إن البحث عن أقدم اللغات, أو لمن اللغة الأم هو ضرب من الجنون والعبث, بل ذهبت مؤسسات أكاديمية في الغرب إلى تحريم مثل هذا البحث واعتباره خارج نطاق المقاييس العلمية لأنه لن يؤدي إلى نتيجة. مثل هذا التحريم منطقي وصحيح لأن الوصول إلى نتيجة أمر لا يمكن التصديق به, ولكننا اليوم نكتشف بعد عقود من التراكم في الأبحاث والدراسات, نكتشف إلى أين قادنا هذا البحث أو الغايات المرجوة في النهاية منه.. اليوم حصاد مثل هذه الأبحاث يتم في مؤسسات ومراكز دراسات تعنى بالترويج لأفكار أقل ما يقال فيها إنها عنصرية ومتعصبة. البحث من جديد. العودة إلى السؤال السابق أي اللغات هو الأصل, هو موضوع الكتاب الصادر حديثاً عن المنظمة العربية للترجمة بعنوان:(لغات الفردوس), الكتاب من تأليف موريس أولندر وهو (أولندر) استاذ محاضر في معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس, ويدير مجلة الجنس البشري ومكتبة القرن الواحد والعشرين في دار (منشورات لوسويل). أما المترجم جورج سليمان فهو استاذ الفلسفة في جامعة القديس يوسف. يطرح موريس أولندر في هذا الكتاب مسألة ارتباط الوعي القومي بفكرة العناية الإلهية في الوجدان الأوروبي, بكل ما تأدى إليها, وما نجم عنها من إشكاليات. ولا غرابة من ذلك كما يرى المترجم لأن كل بحث عن الهوية هو بحث عن الأصول, وإذا كانت لغة الشعب ذاكرته والشاهد الصريح على استمرار هويته فإن الوعي القومي إذا ما تلبس سر القدرة الفاصلة بين النور والظلمة والكيان والخواء, سرعان ما يغري بتجاوز الجذور والبنى اللغوية إلى لحظة الخلق الأولية التي كرست تجذر الكلام البشري في الكلام الإلهي تمهيداً لإنشائه والتمايز والتصنيف بين الشعوب والأعراق. جذور الطرح لقد كان لاهوتيو العصر الوسيط أول من أثار موضوع لغة الأصول الإنسانية, لكن طرحهم جاء من منطلق ديني بحت, ولم يكتسب بعده القومي المعقد إلا في أوروبا مع إطلالة القرن الثامن عشر الذي حفل بتيارات فكرية وسياسية حاسمة. أحد أبرز هذه التيارات فلسفة الأنوار الفرنسية التي سعى دعاتها أمثال: فولتير وجان جاك روسو إلى الخروج من حال الانحطاط المهيمن بدافع من إيمانهم بقيمة الفرد الإنساني وقدرته على الترقي وحقه في الحياة والحرية التي هي شرط أساسي لتفتح الفكر وانبعاث مسيرته الجدلية. الفرضية الأولى كانت فرضية اللسان البدئي مثار جدل كبير تناول أول الأمر موطن الهند- أوروبيين الأوائل وأبرز النظريات بهذا الخصوص تلك التي أدلى بها الفيلسوف الألماني (لايبنتز) حين تحدث عن شعوب تحدرت من نسل (شيت) فغزا قسم منها بلاد اليونان واجتاز القسم الآخر نهر الدانوب وصولاً إلى الأراضي الجرمانية وبلاد الغول, غير أن علماء اللغة فضلوا في انعدام كل دليل ملموس حصر اكتشافهم في مجال الدراسة اللغوية التي تضمن وحدها تعليل التشابه المذكور. أما العلماء الألمان فقد اجتذبتهم فرضية القرابة مع اللغة السنسكريتية فعكف فريق منهم أمثال: فرانز بوب وأوغست شلايخر وكارل بروكان على وضع دراسات في الفيلولوجيا, المقارنة جاءت من الأهمية بحيث إن دوسوسير لم يتوان عن الاحتكام إليها لدى وضعه أصول علم اللسان العام. وفي نهاية الأمر بدأت الشعوب الأوروبية تنجر كلها أو بطريقة أو بأخرى إلى الأخذ بمبدأ التمايز العرقي لتبرير نوازعها الاستعمارية بحجة أنها مدينة للشعوب الدنيا بإرث حضاري عريق يتعين عليها بعد بلوغها مرحلة متقدمة من التطور العلمي أن ترفدها بغلاله الوفيرة. موريس أولندر مهد لتحليل الاتجاهات المذكورة برسم الإطار الذي نمت فيه الحركة الهند- أوروبية, وازدهرت العلوم الفيلولوجية حيث مال إلى التركيز على فكر ريتشار سيمون الذي وثق الصلة بين تفسير الكنيسة وإلزامية الوحي الإلهي مؤكداً أن العناية الإلهية تفعل في التاريخ فعلها في النصوص الكتابية. فجر النشوء هو السؤال المحور: أين يقع الفردوس? في أي منطقة مباركة من العالم جعل الله جنة عدن..? بل بأي لغة كان ينطق آدم وحواء أثناء إقامتهما هناك..? لغة الفردوس.. هي ما كان عليه التعبير اللغوي في فجر نشوئه, إنها نقطة انغراس النطق البشري في الكلام بمفهومه الأكثر شمولاً ونقاء, سواء عنينا به كلام الله أم كلام العالم والطبيعة اللذين انتشلهما الله من العدم بقوة (كلمته الأزلية) وكونهما من شتات مبعثر. خلاصة القول: نحن ساهون لاهون عن لغتنا وتراثنا, بل نذهب بعيداً في تشويه ما لدينا بينما يبحث الآخرون منذ قرون من أجل تحقيق نصر وهمي سوف يتم استثماره فيما بعد في أدوات المواجهة التي بدأت غزواً عسكرياً وانتهت إلى غزو إعلامي وثقافي يدجّن أكثر مما يقرب في عالم, كلما ضاقت مساحته ازداد اتساع الهوة فيه. ** الكتاب: لغات الفردوس - المؤلف: موريس أولندر المترجم: جورج سليمان - الناشر :المنظمة العربية للترجمة |
|