|
مجتمع من عادتي أن أبدأ بمعاينة الأطفال حتى أنتهي منهم، ثم أنصرف إلى المريضات من النساء في غرفة جانبية، ثم إلى المرضى من الرجال ،المرضى الآن كلّهم في قاعة واحدة، وليست هذه طريقة أصولية، وقل من يلجأ إليها أحد من زملائي، ولكن كثرة المرضى تضطرني إليها. في هذا الازدحام، وتلك الضجة، اخترقت امرأة لا أعرفها،ولا تحمل طفلاً، جماعة الأمهات اللواتي يحملن أطفالاً، ومدت يدها إليّ بعشر ليرات. رفعت السماعة عن أذني، وقلت لها بانفعال وضيق: ما هذا؟ قالت: عشر ليرات، قلت: أعرف... ماذا تريدين بها؟ إذا كنت مريضة فانتظري دورك هناك مع النساء. قالت المرأة: لست مريضة، إنها دين لك علي، طببت لي ابنتي، ولم يكن عندي شيء يومئذ، قلت لعمك: إني مدينة لك، وإن يدي فارغة من المال.. فقال لي: لا يؤاخذك على هذا، ثم إنه ليس عنده دفتر للدين... ما قاله عمي المرحوم كان صحيحاً، فليس عندي دفتر للدين، ولكن عمي توفي منذ زمن، منذ أكثر من خمس سنوات، سألت المرأة: منذ متى طببت ابنتك عندي؟ قالت: منذ.. منذ ثلاثة عشر عاماً، كانت البنت صغيرة، والآن كبرت، واشتغلت، ومن شغلها أتيت لك بهذا المبلغ.....». من هذا النص للدكتور عبد السلام العجيلي الطبيب والقاص المبدع المعروف، أردت العبور إلى حال المرأة السورية الكامنة، قبل أن تزهر وتعطي في نيسان.. هذا الحال الذي جعل الكاتب الكبير يعتز كثيراً بمبلغ (العشر ليرات الأولى) من باكورة إنتاج هذه المرأة قائلاً: « هل أردّ الليرات العشر، وأنا غني عنها؟ لابد أن آخذها، فإن لها في نفسي، وفي نفس الأم بلا شك قيمة أخرى، غير قيمتها المالية الزهيدة».. نعم.. إنها حكاية بسيطة لمبلغ صغير، لعشر ليرات، تأثر بهذه الحكاية كل من سمعها من أصحابي... قالت السيدة الفرنسية التي قصصت عليها حكايتي الصغيرة هذه: «أوه... أشعر بأن شعر جلدي قفّ مثل جلد دجاجة» إلا أن تأثري بها كان من نوع آخر، كلمات تلك المرأة المجهولة أو المنسية، أدخلت إلى نفسي طمأنينة ورضا قلّ أن عرفت مثلهما.. والآن، بعد أن أزهرت حقول نيسان من حفيدات تلك المرأة من كل شكل ولون، الطبيبة والمهندسة والمعلمة والكاتبة والباحثة والعاملة والمتطوعة في حماة الديار، هل تبقى العشر ليرات الأولى من قطافها الأول بذات قيمتها آنذاك على عظمتها الرمزية والمعنوية، أم أنها تضاعفت في العطاء بفضل نيسان التجدد، كالسنبلة التي فيها مئة حبة، وفي كل حبة مئة سنبلة مما تعدّون.. ألا يستوي في هذا المشهد قوله تعالى « من يقرض الله قرضاً حسناً يضاعفه له» فإلى كم ضعف وصل قرض هذا الطبيب والقاص الكبير في -قيامة- هذه المرأة على نفير نيسان؟!!... إنها بداية -البداية- وأما النهاية فأراها في نفسي ومن بعدي في بناتي وحفيداتي فشكراً نيسان الأزاهير المتفتحة على مرّ المواسم المتجددة في كل عام ولا تنتهي.. |
|