تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


دمشــــــــــق يا قلبــــــــــي..

مبدعـــون علـــى صفحـــات «الثـــــورة»
الأحد 15-9-2013
علي الجندي

... لم أعد استطيع احتمال ابتعادي أكثر من ذلك، ففي كل يوم أشعر بأنني أخونك مع المدن الأخرى!

لعلي لم أعد أهلا للغربة والترحال، وأنا الآن متعب، متعب، وكل ما أريده من العالم أن أعود أسرع ما يكون إلى ظلال جسدك العاجي يا بلدي الحبيب.‏

إن كل الروائح، وكل الطعوم لم تعوض على رائحة تربيتك المسممة بالطيب.. ولا طعم شفتيك الجافتين من زاوية الشمال المغتصبة حتى الزاوية اليمنى الملوثة..‏

وإن كل الألوان الرائعة التي لمست نداوتها جفوني، من قرميدية (غوثمان) في كييف، إلى خضرة (غوبا) الليننغرادية المرطبة بالأزل، إلى وحشية (غوخ) الحريرية الموسكوفية... إلى عهد السموات المنقوش من نافذة الطائرات.. إلى لون حرقتي الحزينتين.. لا يعدل أبداً لا يعدل حتى الموت لونك الصحراوي الناشف يا قلب وطني الكبير، يا حبي الشرس يا.. دمشق.. خذوني إلى دمشق، أسرعوا إلى أحضانها فإن ولعاً طفولياً يستيقظ في خلاياي جميعاً إليها.. إن شغفاً بدائياً يهز أطرافي بطرف عيني، يجفف حلقي، يصدع رأسي.. بحنان وخوف وشوق أبوي إليها..‏

دمشق هذا القلب الكبير المرهق المحقق بكل محبة العالم.. وحقده وشبقه للحياة، وبكل مخاوف الدنيا أيضاً... هذا القلب يبدو لي وكأن قوائم سرطان شرير تجنزره تطوقه بحمى آكلة هلوك.. رويداً، رويداً..‏

وأحسني يجب أن أكون معه أن أنتصر بالشفاء، أو أنتصر بالتوقف عن الخفوق..‏

وإلا فإنني سأشعر بوزر التخلي عنه إلى آخر الحياة.. مثل شاب نادته أمه قبيل احتضارها، وتلكأ في تلبية النداء.. وعندما وصل فوجدها هامدة ظل يتعذب حتى هدد هو أيضاً..‏

لهذا، ولألف سبب آخر، أنا مزمع على هجران كل الجمال في كل مكان والإسراع إلى بلدي..‏

أنا أعرف منذ أمد أنني لم أعد أهلاً للتغرب والرحيل.. وإنني غدوت أعجز من أن أقاوم استسلامي لحبي، وارتباطي بحجارتك يا دمشق.. ولكنني حاولت هذه المرة، لآخر مرة على أمل أن روعة هذا العالم الجديد ستساعدني، ولكن حنيني إلى قباب صدرك المتنسك في أقبية التاريخ، وتصور شموخ أنفك العالي على الأفق المتعالي على الرياح الغربية.. همت منذ آخر ابتساماتك الشاحبة لي وأنا أقلع.. وظلت تحت جلدي، وتلتصق بصدري، وتتسرب خلال شراييني مثل الحمى.. كل أيام فراقي..‏

إن العالم الجديد الذي رأيته هنا مذهل في رحابته، وبالرغم من كل الاتهامات التي كنا سمعناها للحضارة التي بدأت تولد قبل خمسين عاماً.. رأيت أن الناس يحبون وطنهم كثيراً بل هم يعتزون حتى بأحيائهم، ويتفاخرون ببراءة على بعضهم، بأنهم تسابقوا بدفع الثمن لهذا الحب ولهذا الاعتزاز. أهل كييف يعتقدون أن النازيين كانوا يسرقون تراب أرضهم الخبر بالقطارات ليلقحوا به جلدة أرضهم الهرمة..‏

ومع ذلك فإن المدن الكبرى هنا متحف للحضارة، في متحف يوشكين في موسكو، ومتحف (الارميتاج) في (ليننغراد) يلتقي ميشيل آنج مع رودان ورامرنت مع بيكاسو، وفنان يوناني الأصل عاش في كييف على ضفاف الدينير. وترك لوحات لم يدرك حتى الآن أحد السر في أن ألوانها تزداد قتامةً عاماً بعد عام..‏

وأمام نافذة غرفتي في الفندق ترتفع قباب كاتدرائية عتيقة حتى السماء، تلتمع قبابها المطلية بالذهب تحت عين شمس البلاد الجديدة، ومع أنها أصبحت متحفاً يبدو لي أمام بابه صف طويل تملي من السياح فإن الكثيرين يتأملون بدهشة صور القديسين على الجدران، وتماثيل الأساطير الخالية على أكتاف الأركان جميعاً.. وربما هم يخرجون لمحوا تمثال بطرس الأول يأتي المدينة، وهو يحدق نحو الأفق مشيراً بيد فولاذية نحو الغيوم من على حصانه الأدهم العملاق.. أن كل ذلك أصبح شيئاً من الماضي، ويبدو أنه ليس بوسع الشعوب نسيان ماضيها.. وكذلك ليس بوسع الناس..‏

إنني متعب يا دمشق، يا قلبي العظيم، يا ناقوساً ظل يبعث برنينه عبر الأجيال منذ بداية التاريخ. يا «أمير النواقيس» الهابط من أعلى برجه على أرض القرن العشرين والمشعوث، المكسور الأضلاع مثل أمير النواقيس في الكرملين بالرغم من بطولية الهبوط، ومهابة التربع على قاعدة صلدة... ومتانة الصنع، وأصالة المعدن، ولكن رنينك لم يعد يتناهي إلى بعيد..‏

إن جلال الربوض هو الجلال الوحيد الباقي لك من أمجاد الاطلال من فوق، وصم الآفاق بالرنين المهيب ولكن نواقيس كثيرة هنا، في كثير من الأبراج تهتف لك كلما مرت بها الريح، وذكرتها بتاريخك وصلابة فولاذك على الأرض..‏

إن رجلين كانا يسكران في مطعم الفندق في موسكو, كانا يشدان قبضتهما ويهتفان بسقوط إسرائيل ويقولان: نحن جنديا دبابات خضنا الحرب الأخيرة، ونعرف كيف نموت معكم, خذونا إلى هناك.. إننا قادمان من سيبيريا بعيداً.. ولكننا نعرف كل شيء عنكم..‏

لن أنسى أبداًِ عامل المصعد في فندق كييف الذي ظل يومين يحييني بالروسية على أنني مواطن من جورجيا، ثم لما رآني أسافر دون أن أردد على كلمات وداعه، وفهمت أنه يسألني إن كنت غريباً وقلت له عربي سوري انهال علي يشد على يدي.. ويبرطم بألف كلمة متحمسة لم أفهم منها سوى بالإشارة أنه يريدنا أن نسحق إسرائيل والإمبريالية..‏

ومع ذلك وبرغم المحبة التي طوقت بها هنا.،. فإنني مرهق بالشوق لك يا دمشق..‏

إن عرف جسدك المتهدم يتناهى إلي على البعد فينعشني ولكنه يكاد يوحي إلى أنني لن أراك.. إنني لم أخف السفر في قدومي غير أنني منذ الآن أتصور تمطي الدقائق في الطريق إليك يا جنتي.. يا قلبي يا قلب وطني يا ضمير أمتي...‏

أو عليّ أن اعتذر لك عن إحساس بخيانتك مع المدن الأخرى؟‏

إنني في الحقيقة لم أفعل وكل ما في الأمر أنها تمتلك ألف وحي يمكنها أن تعاونني على أن أحبك أكثر، على أن أعرف كيف أحبك أكثر فمن الحب ما هو دمار إن لم يكن حباً واعياً.. أيتها المدينة القديمة يا أروع المدائن في فرحها الصافي، وحزنها الصامت، في خوفها المتكبر وإصرارها المتواضع يا منارة على شاطئ الماضي تشع على طريق المستقبل أيضاً.‏

الخميس 7/9/1967‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية