|
شؤون ثقافية وبوصلة تشير إلى دروب الحور! فلدمشق ذاكرة تجيد حفظ الأسماء والوجوه, وتقدر أن تكشف أسرارك عبر لمعان العيون و رائحة الأنفاس و موسيقا الأيدي التي تدق بواباتها. لأنه يحمل في سلال يديه كلاماً بسيطاً, وموسيقا ساحرةً, وباقةً من ورد وشموع, لأنه يشبهنا حين نحبُّ, وحين نغني, وحين لا نجيد غير الحنين, تعرفت دمشق على بصمات انتمائه, ورحبت به ضيفاً تهديه كل مساءات الصيف المتكئ على شرفاتها. لو أن القمرالذي أتمّ دورة ضيائه لم يعلن مسبقاً عن نيته بإغلاق النوافذ قليلاً تلك الليلة, لقلتُ: لقد ترك الساحة لكل ذلك الجمهور المنتظر إطلالة زياد الرحباني, بعد أن شعر ببعض الغيرة. لم تبق الكراسي في أمكنتها المحددة لها, بل تقدمت وتدافعت لتكون في المدى المجدي للنظر إليه حين يطلّ, ولأن الكثيرين صعدوا على الكراسي لحجز مساحة أفضل للرؤية, لم أتمكن من مشاهدة دخول زياد وفرقته الضخمة على خشبة المسرح,لكن صاعقة التصفيق تلك كانت شهادة إثبات الرؤية الموعودة. لربما جاء شباب سورية كلها لو استطاعوا إلى ذلك سبيلاً, ومن لم يحالفه الحظ أوصى أصدقاءه بفتح خطوط الموبايل ليصغي لبعض مقاطع من موسيقا زياد وأغنياته. كنت أدرك أن الشباب السوري معجب بزياد, لكن تقديري لدرجة الإعجاب لم تكن دقيقة, فما معنى أن يشهق أولئك الشباب لكل حرفٍ ينطق يه ! ويصخبون لكل نكتة أو تعليق يقوله! وإذا كان هو نفسه قد دهش بكل ذلك الحب والمشاركة فلا بأس عليّ من بعض دهشة. انطلقت أصابع زياد لا لتعزف على البيانو, بل لترقص مع تماوج الجمهور ولعله تلك الليلة عزف على نوتات الحب لا على نوتاته المعتادة. كانت أغانٍ حفظناها عن ظهر نبض, رافقتنا في صباحات القهوة وبزوغ الشمس من شرفاتنا, وكنا برفقته كمن يجلس إلى صديق حميم غاب عنه زمناً, ثم جاء لزيارته فما عاد يسلسل أولويات طرق التعبير عن مدى اشتياقه, فتصرف على هواه, وهل بين الأحبة بروتوكولات! أعتقد أن لزياد روحاً وثابة كأرواح هؤلاء الشباب الذين لا يطيقوا أن يكونوا كالمياه تحتجز خلف السدود, وقد أدرك هو بحدسٍ أو بصواب رؤية ذلك التوق للإنفلات والتدفق دون مسارات محددة, فكانت أغانيه وموسيقاه وصوته دليل الطريق الجديد, فهم راغبون بما يتحرش بهم من كلام وموسيقا. قد نستغرب تلك الكلمات على قلّتها فأغانيه كما أعتقد تقتصد في الكلام وتترك مساحة أكبر للموسيقا. إنه يتكلم بلسانهم فيعبر عن نزقهم, وحبهم لموسيقا مختلفة تزاوج بين الشرقي المعتق بمقاماته الرهيفة الحنونة, وبين الغربي وآلاته الموسيقية الصاخبة الضاجة كنبض قلوبهم, الحارة حرارة عواطفهم, ولذا أوكلوا إليه - وعن بعد -النطق باسم جيلهم. تتالت المقطوعات الموسيقية والأغنيات العذبة البسيطة (.. ليلي ليلي, بلا ولا شي, عايشة وحدا بلاك, تلفن عياش, عهدير البوسطة, عودك رنان, شو...) أجادت الفرقة أداء ما عليها ولم أستطع منع عينيّ من ملاحقة حركات المايسترو إذ كانت حركات يديه أشبه براقصيْ باليه غاية في الانسجام, كما أجادت المغنيات السوريات بأصواتهن الجميلة أداء أغنيات محببة إلى قلوبنا ... لم أكن أبالغ في كل ما قلته آنفاً فقد كانت ليلة خاصة من ليالي صيف دمشق ويكفي أن نستعرض بعض مفرداتها: شباب وموسيقا وليلة مقمرة هادئة ندية النسمات, كل هذا في حضن قلعة عريقة, بالقرب من الأمويين, ونصب صلاح الدين, وسوق الحميدية, وكل العبق الساحر لدمشق. حين اطمأن القمر على السير الجميل لكل شيء وشاهد الجميع من عليائه وهم يراقبون خسوفه, قرر أن يرفع ستائره رويداً رويداً ليغمر ذلك الليل بضوء مصابيحه. |
|