|
صفحة ساخرة ومثلما كان هذا في الصورة التي رسمها له »ابن مماتى« في كتابه, فكذلك هو في هذا العمل الأدبي الذي كتبه القاسم بعد هزيمة حزيران: لقد سقط القناع عن وجهه فإذا هو ذلك الوجه النازي. على أن قره قوش هو في الحقيقة غير ذلك تماماً, فهو من أذكى المهندسين المعماريين, وقد أقام قلاعاً وحصوناً كثيرة حول القاهرة بأمرٍ من صلاح الدين الذي جعله نائبه في غيابه. اطلع السلطان صلاح الدين الأيوبي خلال الحروب الصليبية على القلاع والحصون التي بناها الفرنجة في بلاد الشام, ووازن بينها وبين حصون الفاطميين فظهر له أنها أمنع من حصونهم, وأراد بناء قلاع كبيرة منها تحيط بالقاهرة لئلا يتمكن منها الصليبيون.. ولم يكن لمثل هذه الأعمال المضنية والمشروعات الضخمة سوى الأمير بهاء الدين قره قوش. ولا تزال في المقطم بقايا قلعة قديمة منها تدعى »قلعة الجبل« كانت تشرف على القاهرة كلها, وكانت مقراً لصلاح الدين, وقد توالى على الإقامة فيها عدد من ملوك الايوبيين.. بل إن محمد علي الكبير جعلها مقراً لدواوين الحكومة. قره قوش يبني السور والقلاع وقد بنى قره قوش سوى هذه القلعة »قلعة المقس« على النيل, ثم بنى أبراجاً أخرى على النمط الفرنجي.. وما كاد يستريح من بناء هذه الأبراج والحصون حتى أمره صلاح الدين ببناء سور عظيم على حافة الصحراء الغربية, فأنجزه خلال سنتين 567 و569 ه.. وعندئذ أمره صلاح الدين ببناء سور عظيم يحيط بالفسطاط والقاهرة معاً, ويصل بين جميع تلك القلاع والحصون التي بناها الأمير قره قوش خارجهما(1). وخلال هذه الأعمال حشد قره قوش ألوفاً مؤلفة من أبناء الشعب في مصر ومن الأسرى.. كانوا يعملون جميعاً بجهد ومشقة وليس لهم سوى قوت يومهم. ولم يجد ضيراً في أن يستخدم, من أجل بناء الحصون والأسوار أحجاراً من الاهرام الصغيرة المبعثرة في الصحراء, وأخذ من صخور المقطم كميات هائلة.. قره قوش من أذكى المهندسين إذاً فإن قره قوش, لم يكن رجلاً أي رجل.. بل أمير من امراء الجيش, وواحد من أكبر وأذكى المهندسين في عصره.. ولعل آخر ما قام به عمارته لسور عكا. وحين نشبت معركة عكا بين العرب المسلمين وبين الفرنجة وعلى رأسهم ريتشارد قلب الأسد, كان قره قوش داخل عكا (2). وقد حاصر الفرنجة عكا عامين كاملين, ذاق أهلها خلالهما الأمرين, ثم دخلوها وكان قره قوش بين الأسرى, وبقي في الأسر حتى أفرج عنه يوم عقد الصلح.. ولكن ماذا بعد? ولماذا صدرت تلك النكات حول قره قوش? »الفاشوش في حكم قراقوش« إنها في الأصل, موجودة في كتاب من موجودات دار الكتب المصرية عنوانه: »الفاشوش في حكم قراقوش« وهو كتاب صغير الحجم, وثمة نسخ متعددة منه في دور الكتب المختلفة.. لكنه هو الذي كان وراء معظم النكات والنوادر التي تروى عن قره قوش.. وقد كتبه الأسعد بن مماتى.. وقيل إنما »صنفه لصلاح الدين عسى أن يريح منه المسلمين« (3) ذاك أن الرجل, بعد كل ما تقدم كان قاسياً صارماً لا يستشعر قلبه الرحمة, لدى تنفيذ أمر من الأوامر التي يرغب فيها السلطان صلاح الدين, وكان لا يعرف طريقاً إلى الرأفة بالناس في سبيل ذلك. أخذ الجميع بالقهر والشدة وكان شديد الخصام, فلا يقر مبدأ المناقشة في الأمور, ولا يحتمل الإصغاء إلى جدل يصدر من كبير أو صغير, وله رأي في معاملة السوقة والعامة من الناس, فهو يأخذهم جميعاً بالقهر والشدة, ولا يرده أحد عن أعمال العنف والقسوة مادام مطلوباً منه أن يقوم بكل هذه الأعمال التي لا تحتمل البطء أو الكسل, ولا يمكن أن تتم في جو من التراخي أو التساهل في المعاملة. سلوكه في نيابة صلاح الدين أكبر الظن أن أخلاقه لم تكن أميل إلى الغلظة والشدة والقسوة كما كانت أيام نيابته عن السلطان صلاح الدين في حكم القاهرة, فظهر الجانب الخشن في خلقه, وبدت فيه صرامة الجندي الشرس في معاملة الناس, ولايستبعد أن يكون قد ارتكب في هذه الفترة من حكمه القاهرة أخطاء أغضبت منه العامة, وأوغرت صدور الخاصة, فجاء كتاب »الفاشوش في حكم قراقوش« مصوراً لذلك, مبالغاً في تصويره على طريقة الادباء (4). الهوامش (1) الفاشوش في حكم قرا قوش -تأليف: ابن مماتى -كاتب المقدمة مجهول -المكتبة الحديثة -بيروت: ص38-39 (2) المصدر السابق -ص41-42 (3) المصدر نفسه -ص69 (4) المصدر نفسه -ص70 |
|