|
إضاءات كما ترتبط تلك الذكريات بوقائع فنية جرت على خشبة مسرحها، يتقدمها المهرجان الفني الدولي المتحد اسمه باسم المدينة. ففي كثير من الأوقات كانت بصرى، بسبب مسرحها الحجري الدائري الساحر، تمثل المقصد الوحيد للرحلات المدرسية المتجهة جنوباً، وحتى إذا امتدت تلك الرحلات نحو بحيرة مزيريب وشلالات تل شهاب ومتحف الفسيفساء الثري في شهبا، فإن ذلك يكون على هامش المقصد الأساسي، وربما تكون الصورة الأكثر رسوخاً في الذاكرة هي اللحظة الأولى لالتقاء العين بالمدرج العملاق المفتوح على السماء بعد مسير غير قصير في الممرات الظلماء الضيقة للقلعة المحيطة به. أقيم مدرّج بصرى عام 102 ميلادي مكان قلعة نبطية، حين اتخذ الإمبراطور الروماني تراجان (98- 107م) المدينة عاصمة للولاية العربية في إمبراطوريته، وتختلف الروايات حول المعماري الذي قام بإنجاز تصميم المدرّج، حيث تنسبه بعضها إلى المعمار الروماني فيتروفيوس، فيما تقول روايات غيرها انه المعماري الشهير أبولودور (أبولودوروس) الدمشقي (60- 125م). وتملك الرواية الثانية نسبة غير قليلة من الترجيح رغم أن مدّرج بصرى لا يرد في النصوص التي تتناول إنجازات أبولودور، ذلك أنه في عهد الإمبراطور الرومان تراينوس (تراجان) احتل منصباً رفيعاً يعادل منصب وزير الإنشاء والتعمير أو ما يماثله في عصرنا، وبحكم الصداقة التي ربطت بين الرجلين من جهة، والسمعة السامية التي نالها أبولودور كمعماري عبقري بارع من جهة ثانية، فقد كلفه الإمبراطور بإنجاز كل الصروح المعمارية التي حملت اسمه ومنها السوق الترايانية (سوق تراجان)، والميدان التراياني (ميدان تراجان)، إضافة إلى (عمود تراجان) الذي يخلد إنجازات الإمبراطور، والذي أهدت إيطاليا لسورية نسخة عنه، محفوظة الآن في جناح خاص بالمتحف الوطني بدمشق، وإلى كل ما سبق وجود بعض الملامح المعمارية المتشابهة بين سوق تراجان ومدّرج بصرى. يتسع المسرح لنحو خمسة عشر ألف مشاهد، ويساعدهم تصميم البناء على أن يروا ويسمعوا بوضوح كامل كل ما يجري على الخشبة وفي الباحة المجاورة لها، يضم المدرج 37 صفاً من المقاعد المتصلة المنحوتة من الحجر البازلتي، موزعة على ثلاثة مستويات توصل إليها ثلاثة أدراج صاعدة، وممرات معقودة. ويتسم بكثرة المداخل حيث يمكن للمتفرجين كلهم الخروج من المدرج خلال عشر دقائق، وفي وقت لاحقت حول هذا المسرح إلى قلعة، ويرجح أن التحصينات الأولى حول المسرح بدأت خلال العصر العباسي، وفي العصر الفاطمي بنيت ثلاثة أبراج ملاصقة للجدران الخارجية من الشرق والغرب والشمال، وفي زمن حروب الفرنجة في القرن الثالث عشر الميلادي، بنى الملك الأيوبي العادل، وأولاده، تسعة أبراج محيطية ومستودعات ضخمة وخزان مياه، ليصبح المكان قلعة تامة أحيطت بخندق مائي، وحصر الدخول إليها بمدخل واحد يتم الوصول إليه عبر جسر خشبي. في نهاية عام 1940 بدأت أعمال الكشف عن مدرجات المسرح، ومنذ الاستقلال قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بمتابعة الكشف عن كامل المسرح حتى تم إنجاز العمل كلياً عام 1970، وبعد خمس سنوات افتتح متحف داخل قلعة بصرى، ومنذ أواخر السبعينات بوشر بإنجاز مشروع كبير بقيادة سليمان مقداد الذي بدأ عمله حارساً، مثل عدد من الأشخاص الموجودين في المواقع الأثرية والذين أصبحوا بمهاراتهم مدراء للآثار، كان المشروع يهدف لتنظيم المنطقة وإلغاء كل المنشآت الموجودة في بصرى القديمة من بيوت أو غرف أو مباني وغيرها، مقابل تعويض أصحابها بأرض مقابلة لها في غير مكان، وقد تم كل ذلك بفضل سليمان مقداد الذي تمكن من إقناع أصحابها ببيعها دون أن يعترض عليه أحد، وكانت النتيجة أن تم تنظيف بصرى مثلما تم تنظيف تدمر خلال عشرينيات القرن الماضي حين كانت المدينة الأثرية فيها مشغولة بكثير من الأبنية السكنية العشوائية فتم تنظيفها وإعطاؤها الطابع التراثي القديم - وكان الطموح أن تنشئ المديرية في بصرى مركزاً ثقافياً دولياً، ولهذا تُركت بعض المنشآت كي تكون مراكز أبحاث، وتم منح المقداد وسام الاستحقاق السوري تقديراً لجهوده. في عام 1978 أطلقت وزارة الثقافة مهرجان بصرى الدولي، لتضيف إلى ذكريات الكثيرين ذكريات جديدة مفعمة بالفرح والفن الراقي، بلغت ذروتها حين وقفت على خشبة مسرح بصرى فيروز وفرقتها تجمع بين إبداع المكان والزمان، وفي عام 2015، وضمن العدوان العالمي على سورية، استولت الجماعات التكفيرية على بصرى، فأغرقت وسائل الإعلام ومواقع الانترنت بصور مسلحيها يملؤون المكان رعباً وظلاماً. ومع عودة بصرى إلى أهلها، وعودة مسرحها إلى ناسه، ستسقط تلك الصور البشعة من الذاكرة، لتنتعش فيها من جديد صور فيروز وجوليا بطرس والفرق الفنية البارعة التي جاءت من أنحاء العالم لتعرض فنها الراقي أمام الجمهور السوري. |
|