|
ثقافة المملكة العربية السعودية الخماسين معهد اعداد المعلمين - وادي الدواسر قال: ماالذي ذهب به إلى هناك.. هل هو منفي.. فيما بعد رأيته منفياً قبل ان يصل الخماسين.. بحث ودار.. يريد وظيفة بعد أن أصابه البركان.. باسم الحب أراد أن يقرب المسافات.. ضابط بحرية واللاذقية على مرمى حجر.. جذبته فوهة البركان.. لعله استمرأ لعبة التحدي.. لم تعجبه الجامعة . قسم الرياضيات وكانت مادته المحببة.. والادب الانكليزي لطالما أحب الادب.. رفض كل شيء واخذ يدور حول فوهة البركان.. الجيش.. لكنك انتميت للحزب السوري القومي.. او على الاقل نويت.. ولن تنفعك مقدرتك وشكلك الجميل وقوتك البدنية ويمينك للوطن.. أنت منفي.. نفاه البركان.. رسم دوائر حركة متباعدة لاتشكل سلسلة.. اخذت السنون تمضي والحلم يبتعد والحب ينتظر.. أين المفر لمنفي في وطنه.. شكر ربه وأقام الصلوات عندما اعطوه جواز السفر.. كتب في مذكراته.. «كانت السيارة تمضي بنا في بحر الرمال.. قلبي حزين .. ولادمع في العيون.. الاهل والحبيبة والوطن.. ورأيت السراب.. لأول مرة في حياتي رأيت السراب.. ادهشني جداً.. واذا طالت بنا المسافات وتكرر مشهده تساءلت: هل ما رأيته في حياتي حقيقة أم سراباً..» اول رسالة منه طمأنني .. عندما قرأتها فيما بعد استغربت انني لم احسن قراءتها في حينه.. رسالة مليئة بالحزن قرأتها مدونة انتصار.. وتأخرت حتى سألت روحي عن الاديب الكامن فيه كيف ساقته الاقدار الى الخماسين؟! في رسالة اخرى ابدى ملله من رسائلي.. طلب مني ان اكتب له ماأريده وليس ماأكتبه.. ان اكتب ما أشعر به انا وألا ارسله باسم احد اياً كان.. وألا اكتب لغيري رسائله.. فتوقفت عن مراسلته.. ثم جاءتني منه اخر رسالة قال لي ان صمتي خير من رسالة تبدأ بالمقدمة المتثائبة نفسها.. وروى لي شيئاً عن ظروف قاهرة يعيشها .. قال لي: هربت من منفى في وطني، الى هذه الصحراء الخالية ؟. هرب من منفى البركان.. الى منفى المال.. لكنه ولأن حياته خط بياني شديد التعرج .. انتقل دفعة واحدة من الربع الخالي الى القطب الشمالي.. لينينغراد.. ومازال في المنفى.. عاد يبهرني بكتاباته.. قرأت له في صحيفة اجمل ماقرأت من ترجمات ليرمانتوف.. كتب لي: قرأت عن هذا الشاعر.. احد اعلام الرومانسية الروسية.. مات صغيراً.. وكتب قصائد لافتة.. في مرة ثانية حدثني عن بوشكين.. ثم روى لي عن متاحف لينينغراد.. عن الاداب هناك. عما قرأه. بعد اعوام.. قلت له: -هل تشعر أنك فقدت شيئاً < لا.. ماذا فقدت.. -هل تبحث عن شيء < ابداً.. عن ماذا.. ؟! -هل تتذكر الاوراق التي كنت تكتبها. < أين هي.. -لا أعلم.. لكنها كانت جميلة .. قدرتك على التعبير لافتة.. ولغتك صحيحة. - لاتذكرني .. اصبحت في دنيا اخرى.. هم سيكتبون مشيراً الى اولاده. كل ما مضى .. النفي .. الحياة .. البدانة والنحافة.. والسرطان.. عجزت أن تخذل عينيه .. وجه حنطي متألق وعينان خضراوان تبرقان.. كان جميلاً باعتراف الجميع .. أنيقاً .. نظيفاً .. لكن النفي أبعده عن ذلك كله.. لم آخذ حديثه على محمل الجد .. أعلم أنه السرطان .. و أنهما في معركة تحدٍ ، لكنني كنت مصراً أنه سينتصر مستنداً على الخط البياني شديد التعرج لحياته .. منذ أيام استقبلني في بيروت ، ما زال شاباً.. تحدثنا .. تضاحكنا .. تناولنا طعاماً .. وسألته: - أحببت شارع الحمراء.. < إنه قريب من مشفى الجامعة الاميركية وهو السبب لوجودي في الحمراء وبيروت كلها.. كبتُّ الغصة في قلبي .. مازال النفي يلاحقه .. أي ظلم وقع على هذا الرجل.. تابعنا الحديث في اللاذقية: قال لي: < من حقي أن يكون لي في هذه الدنيا من أثق به.. - لعلك مستعجل .. ثم المسألة لا تحتاج وصية ولا أمانة .. هل تظن أن أحداً منا سيقصر عن واجبك؟! < فيكم البركة.. لكنني أريد أن أموت وقد آمنت.. حدد مكان القبر .. مكان التعزية .. النفقة عن روح الميت .. استقبال الضيوف.. بصراحة أنا خفت .. كيف يستسلم هكذا؟! إنه يجرني معه الى المنفى .. لن احضر في اليوم المحدد لاستلام الأمانة .. لن استجيب لدعوة الغداء .. هذا ظلم.. أمرني غاضباً بالحضور بسرعة عجيبة أخذت تنفيه الحياة .. كان يسابق الخريف على الذبول.. أين ذهبت أوراقه.. في إحداها كتب عن أناس يهددون شاباً لأنه يبكي ، ابنتهم المتوفاة التي أحبها.. هل كان يخشى الموت..؟! هل لذلك علاقة بالنفي الذي عاشه طويلاً..؟! في زيارة رأيت دمعاً في مآقيه.. اجتهد كي يفهمني ما يقول : - لم اعد اقدر على الوصول الى غرفتهما كي اتلمس تختيهما، طيفهما في قلبه وهما في البعيد.. ثم نام.. لم يعد اسمي كافيا لتحريضه لفتح عينيه.. نام .. وانتظر العيد.. ورحل.. تحت شجرة بيلسان في حقل للنرجس محاطاً برحمة الوالدين انهى منفاه.. وائتلف. |
|