تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


التشكيلي محمد أبو صلاح القوى الإبداعية بمحركها الإنساني

ملحق ثقافي
الثلاثاء21/2/2006
فتحي صالح

التناغمات اللونية التي يحدثها تومض محدثة تلك العلاقة الجدلية في درجاتها فتدخل عمق الروح، و لا غرابة فالحس الذي يمتلكه الفنان يحمل برهافته مكنونات خلقية تجيد اللعب و الانتقال ببراعة على الأوتار اللونية التي تمثلها تلك الدرجات و التي لا يكتفي بجعلها تخوض الآليات التقنية فحسب، بل الجميل بصفة خصوصية، و هو يبحث في علاقات انسجامية و موضوعية للوصول إلى هذه الخصوصية.

اللون الذي يبدو مستقر في المساحة المحددة له، ينتشر على امتداد العمل الذي يطبع بصيغته النهائية كواحد من مخزون ثري و متنوع، و حينئذ تصبح اللوحة بألوانها فعلاً إبداعياً، إذ أن التجربة اللونية هي تجربة فنان خاض كثيراً للوصول إلى هذا النمط اللوني الذي يخترق المألوف. و في هذا النمط من التعبير تمكن الفنان من صنعته اللونية، انطلاقاً من العجينة التي يعجن بها سطح اللوحة إلى الحفاظ على هوية اللون في الخلطة التي تتركب منها الدرجات، فهي تصل إلى حد الإشباع أحياناً، و أخرى تعتمد الشفافية الرهيفة. تتدرج وفق مساحات لونية تارة، و أخرى تتدرج بانسياب. إنه الوقار اللوني السمة الأكثر دلالة و تعبيراً عما يحتشد من انطباعات أسست لهذا الفكر المستنير الذي خاض في غمار الفن فنما و ترعرع بوقت قصير و ارتقى إلى الصف الأول في التشكيل الفلسطيني المعاصر.‏

اللغة لتشكيلية ببعديها الزماني و المكاني تنطلق لديه من الإحساس غير المؤطر الذي تنتمي إليه، حيث لا يمكن الفصل بين الزمان و المكان لأنهما يسيران في خطين منسجمين، و كل منهما يدير الآخر و يوجهه بسلاسة وفق المعطيات التي يقدمها الفنان، فيصبح ذلك الارتباط المحور الناظم الذي يبنى عليه العمل، إذ أن الروح الواحدة هي المسيطرة، و هي البوابة التي من خلالها تقرأ البياتات الفنية. المكان الذي يكون مخاضة الحدث يستمر بالشكل الأمثل ليؤدي مهمته بالتكامل مع بقية العناصر و هي تترابط مع بعضها ارتباطاً حسياً من غير جدال.‏

باستثناء بعض الأعمال، فإن المكان ذو الحدود المنفتحة من أهم الركائز التي يستند إليها ليبعث في الروح ذلك الامتداد اللانهائي الذي يتجاوز حدود اللوحة و يبعثر المساحة المضاءة فيتداخل ما هو موجود في العمل الفني و ما يمكن أن يقره الخيال لتصبح الصيغة الفنية القائمة على السرد الواقعي للوهلة الأولى صيغة روحانية تتجاوز في مداها المألوف و تعاود بناء التركيب الفني في أطر جديدة. المكان هو البيئة الحقيقية الذي تبنى عليه الفكرة، و هو الذي يقدم أولى المعطيات في رؤية العمل لأنه أكثر العناصر مباشرة و ملامسة لإحساس المتلقي، لذلك يقدمه أبو صلاح ضمن المشروع الفني بإحساس مرهف، إلا أنه لا ينفلت بأي حال من الأحوال عن الزمان الذي يركبه بحيوية و انطلاق. و يتميز الزمان باللا محدودية، إنه يتجه نحو عوالم تحرض الخيال و تبعث في النفس شعوراً أشبه إلى حد ما بذلك الشعور الذي ينتاب الإنسان في التركيبات الأسطورية لحلم أوزوريسي يمتد في الذاكرة الجمعية، أو أنه يشبه التركيب السريالي لحلم يشكل قيمة مثلى و يرتبط بالحكايا الشعبية اليومية، أبو صلاح يقدم الزمن على أنه الوسط المهم في التركيبات التي تسيطر على الهواء الذي يخلقه بجودة و انسجام نوعي. إنها الرؤية الخاصة التي تتناغم بصورة إيجابية و المعطيات المحددة لمفهوم اللوحة لديه. ذلك المفهوم الذي ينطلق من ثقافة فنية عالية، وفكر وطني إنساني يشكل المبدأ الأساس لحياكة العمل الفني. إن البنى العالية التركيب في التكوين الفني تشكل دلالة واضحة على القدرة التقنية التي يتمع بها، و إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تلك البنى ليست وليدة الصدفة و إنما وليدة التداعيات المتماسكة التي يخلقها نتيجة مثابرته و إصراره على تحقيق متطلبات الذات الإنسانية، فإنه بالإمكان سبر التفاعلات التي تقوم عليها تلك البنى للوصول إلى الجوهر الحقيقي للابتكار. و لعل تلك الكتل المشكلة للتكوينات الفنية من أبرز ما تستلزمه حياكة العمل الفني الظاهرية التي تلتقطها العين فتبنى عليها أحكاماً أولية، لذلك يجب على الكتلة أن تحمل طاقة عالية من القدرات البنائية الفنية التي تشغلها ملكة الإبداع. الإنساني الجميل هو الأبرز في التكوينات البشرية التي يقدمها أبو صلاح بالكثير من القدرة الإيقاعية لتلك العناصر التي تشكلها، فهو يستطيع أن يجمع بين التكوينات الحادة التي تعتمد على الرؤى البصرية الهندسية ذات الأبعاد المتناغمة و التي تكون في أساسها متواليات هندسية ذات حسابات مطردة تبنى عليها مجموعة العناصر فتشكل التكوين الذي يأخذ بعين الاعتبار في حساباته المنظور الخطي. و بين التكوينات اللينة التي تعتمد على الإحساس المرهف في توليف الإيقاعات بين العناصر التي يزيد في جمالها استخدام المنظور الهوائي الذي يخفف من قوة الكتل الثقيلة، فتبرز الكتل الخفيفة و تظهر رشاقتها و انسجامها مع باقي العناصر بأسلوب خفيف و سهل التلقي قادر على تنشيط و تحريك المشاعر بسلاسة متناهية. و لابد من القول : إن أبو صلاح يحقق في هذا أسلوباً مميزاً و فرادة قد تكون ألهمته إياها الذاكرة البصرية و الخيال النوعي الذي اعتمد ثقافة بصرية و فنية جعلته مع كل هذا قادراً على تفعيل القوى الإبداعية بمحركها الإنساني بكل موجباته ليكون شاملاً و معبراً عن ذاته القادرة على الخلق و البناء الفني. من هنا يظهر التكامل و الإحساس بالفرادة و النوعية في التكوينات الفنية التي يحررها على سطح لوحته، و تظهر أيضاً التأثيرات الفاعلة لمنظومة القوى الذاتية التي تتفاعل في الصيغة النهائية للعمل الفني لإعلان البيان التشكيلي الثقافي الذي يستهدفه العمل الفني. و أخيراً فإن الفلسفة الفنية و الفكرية التي قامت عليها تجربة الفنان محمد أبو صلاح وضعته في مقام الفنانين المتميزين في التشكيل الفلسطيني المعاصر، و لم تمنع حياته القصيرة ذلك.. لقد كان لأعماله حضوراً جميلاً، و من أشهر هذه الأعمال : - " أوليس و حلم إيثاكا " : أوديسيوس (أوليس) هو ملك إيثاكا، البطل المخلد في الأسطورة الإغريقية، صاحب فكرة الحصان الخشبي الذي مكنه من فتح " طروادة " بعد عشرة أعوام من القتال، العاصفة التي أثارها إله البحر " بوسيدون " جعلت سفينته تنفصل عن الأسطول العائد إلى " إيثاكا " و يتيه في البحار مدة عشرة أعوام قضاها غريباً معذباً يواجه المصاعب و الأهوال... إلى أن عاد أخيراً بعد غياب عشرين عاماً ليحرر " إيثاكا " من مغتصبيها، و يستعيد ملكه. في لوحة أبو صلاح " أوديسيوس " هو الفارس الذي سيعود من رحلة التشرد و العذاب، الفلسطيني الذي سيرجع إلى فلسطين " إيثاكا في الأسطورة " ليحررها من رجس الاستعمار الصهيوني.. " إيثاكا" في اللوحة هي المرأة حاملة سلة البرتقال.. هي باختصار فلسطين التي تنتظر فارسها. - " العتمة و الانعتاق " و هو عمل يصور فكرة التحرر من الظلم و الاستعمار، الخروج من العتمة إلى النور، إلى الحياة. - و من أعماله أيضاً " استراحة مقاتل، النصر لنا، لحن فلسطيني... ".‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية