تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


احتـلال العالم نفسـياً.. اختـلال حضـاري وثقافـي

ثقافة
الاثنين 7-9-2015
ديب علي حسن

اميركيان ممن تمت تسميتهما بالاباء المؤسسين، كما تروي وقائعهما جلسا معا وهما في نقاش حول حدود الولايات الاميركية، يسأل احدهما الاخر: اتعرف اين حدودنا ؟ فيرد الاخر انها واسعة شاسعة،

ستزداد مع الايام ولن يبقى مكان في العالم الا ولنا فيه موطىء قدم.. لم يعجب السائل الجواب، فيردف قائلا: انها من حدود العماء الاول (التكوين) الى ما لانهاية، ويالها من حدود ضيقة، انهم الاباء المؤسسون وهم يرون ان الكون كله حدودهم من التاريخ الاول النشأة الاولى الى يوم النهاية، لم يكونوا بعد قد اسسوا القوة الضاربة اقتصاديا، وثقافيا، وماليا، وعسكريا، ولم يكونوا قد مدوا جسور العبور الى حيث الافاق المجهولة، فما يقول الاميركيون الذين اغرتهم القوة الغاشمة، واستطاعوا ان يكونوا القوة الاولى عالميا ؟‏‏

ماالذي يرونه وكيف يفكرون، وهل العالم الذي رسمه الاباء المؤسسون صار في قبضتهم بعد كل هذه القوة الفاحشة، والى اين يقودون البشرية وجودا وحضارة وثقافة، واي انسان يريدون ان يكون ؟ الم يقل منظروهم انهم امة القطيعة، انهم امة مكلفة برسالة سماوية، وبالتالي فكل ما كان قبلهم لاقيمة له ولامعنى لوجوده، وليس له فائدة الا لأنه يمهد لوجودهم، ولرسالتهم الانسانية التي تعيد صياغة وتشكيل العالم على الشاكلة التي يريدون.. من هنا نقرأ الغرور الاميركي في الكونغرس الاميركي، حين يعمل على اطلاق تشريعات معينة، ويطالب العالم كله باحترامها وتطبيقها، وكأنهم المشرعون لكل شعوب الارض، والمسؤولون عنها، وعلى الرعية ان تطبق ما يشرع وما يقال، والا فمبدأ العقوبة موجود، ولايهم الى اين يفضي، الى مجاعات وكوارث وموت محتم، المهم انه الاداة الانجع في الاشارة الى ان من يخالفهم سيجد ذلك في انتظاره.‏‏

وصحيح ان القواعد الاميركية تحيط بالعالم، من كل حدب وصوب ويعسكرون كل شيء، لكن الاصح من ذلك انهم يعملون منذ قرون على احتلال العالم نفسيا، وترويضه وتدجينه، وحسب منطلقات علمية اساسها علم النفس والتربية، وتغيير القيم والاتجاهات والمبادىء, ونشر الثقافة التي يريدونها، ولايذهبن احد الى الظن انهم يعملون حسب استراتيجيات القوة العسكرية، ابداً فقوتهم الباطشة هي الحامية لوسائل التدجين، واحد جوانب الاحتلال النفسي للعالم بشكل مباشر او غير مباشر.‏‏

فهاهو احد فلاسفته الذرائعيين يكتب قائلا: قل لي أي شعب تريد، اعطني مواصفاته، لأدجنه لك، فالامر علم وتخطيط ونظريات نفسية وتربوية، تعيد صياغتك وتربيتك وتدجينك، والاخذ بك الى حيث يريد سدنة المال الاميركي وسادة العالم الجديد، واباء امة القطيعة، تظن نفسك حرا طليقا، تعيش وهم مصطلحات الحرية، والديمقراطية، وشعارات تعتقد انك عشت من اجلها لكنك ما ان تقترب من حدود توظيفها لمصلحتك، وليس لخدمة العم سام، حتى يشد الحبل الذي ربطت به وتركه لك على غاربه حتى ظننت انك افلت، فإذا بك تعود الى حظيرة التدجين، واعادة هندستك كما يريدون، الم يصدر اشهر علماء النفس الاميركيين كتابا هاما جدا، ترجم الى العربية تحت عنوان: تكنولوجيا السلوك الانساني، انه عالم النفس الاميركي سكينر، وكتابه ذائع الصيت مشهور، شكل انطلاقة حقيقية للعمل من اجل احتلال العالم نفسيا، وقدم للولايات المتحدة مفاتيح هذا الاحتلال، بدءا من هوليود مرورا بالحلم الاميركي، ومازرعه في العالم وجذب الشباب الى الولايات المتحدة والوقوع في سحرها.‏‏

انها امركة العالم، ثقافيا، اجتماعيا، علميا، غذائيا، امركة عامة وشاملة، حيث كنت ينقلون اليك انماط الحياة التي يضعونك على تخومها وعليك ان تلجها من اجل ان تكون عملية الترويض والتدجين سهلة،و لاتحتاج الى استخدام القوة التي تجبرك على الولوج الى الحظيرة.‏‏

الاميركانية‏‏

هذه الحال كان اشار اليها وقبل الجميع احمد حيدر الكاتب والباحث السوري في كتابه الهام الصادر عام 1969/ تحت عنوان: نحو حضارة جديدة، وفي فصل جاء تحت اسم الاميركانية، حذر الباحث من ان العالم يتجه الى الامركة من خلال اغتيال ماضيه وذاكرته، ولم تكن الشابكة وثورة التقنيات قد وصلت ذروتها بعد, اذ يرى ان الامركة تتم من خلال نقل الانسان من مستوى القيمة الى مستوى العيش، وان نجعل هذا المستوى الاخير مكتفيا بذاته حاصلا ايضا على تبريره ومعقوليته وذلك بان نضع الماهة في عالم العيش هذا وان نصنع لها ابعادا من حوادثه تنسينا ابعادها الاصلية، تلكم هي عملية التزوير الضخمة ان ينخلع الانسان وان يطمئن الى انخلاعه ويسعد بهذا الانخلاع لانه نسي عالم القيمة فقضيته قد نقلت من مستوى القيمة الى مستوى العيش، وماهيته قد غرست في مستوى العيش هذا وصنعت لها ابعادا زائفة، وبذلك يجد المنخلع نفسه مبررا ومعقولا وينتفي الشعور بالانخلاع، وتستأصل جذوة الثورة من نفوس البشر.‏‏

وماضي الشعب ينظر اليه نفس النظرة، فهو في نظر الاميركانية تاريخ مؤسف كان يجب ان يحصل على نحو آخر ولذلك في نظرها ان ننسى هذا التاريخ وان نبدأ من جديد، ويستعاض عن هذا الماضي المحذوف الذي لامعنى له في نظر ضحايا الاميركانية، بضروب مزيفة من الماضي المصطنع، فيصبح الفرد الذي يحتفظ به معتزا هو جملة من المواقف السياحية المجمدة في صور فوتوغرافية وبطاقات وتواقيع ذوي النفوذ ومجموعة من التحف والهدايا التي تلقاها من اصدقاء المراسلة، وكذلك يحذف تاريخ الامة، او يعاد صنعه ويستعاض عنه بتاريخ حكومي مقرر سلفا فيلقن الطلاب تاريخا معاصرا صنعته الصحافة واجهزة الاعلام، قوامه المؤتمرات والمراسيم والمنظمات، اما بعد المستقبل، حامل القضية الذي نعبر الحاضر اليه فتتغير النظرة اليه.‏‏

وحسب الاختلال النفسي الناتج عن الاحتلال النفسي الاميركي للعالم، فعلينا: ان نمر بالحاضر كراما وينبغي ان نملأه بالمغامرة والسياحة والصيد والجنس ومشاهدة السينما، والا نترك فرصة للتساؤل، هذا ارهاص اولي كان للاحتلال النفسي الاميركي للعالم، ولكن كيف تم وما ادواته والى اين يقودنا، هذا ما يمكن الوقوف عنده قريبا.‏‏

d.hasan09@gmail.com‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية