تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


آفـــاق جديــــدة فــي الوعــــي المقــــاوم..

ثقافة
الاثنين 9-9-2013
 عقبة زيدان

نعم، لقد نشأت الإمبريالية ضمن ثقافة استعمارية، لا توافق - كحد أدنى - على تحرير الشعوب المستعبدة والمستعمَرة. هناك إمبراطوريات -كالفرنسية والبريطانية -، قامت على القتل والتهميش والاستعباد، ومن ثم كان لا بد لهذه الإمبراطوريات أن تتراجع تحت استيقاظ الشعوب ونضالها لنيل استقلالها والتخلص من الظلم والقهر.

يقول ادوارد سعيد في كتابه «الثقافة والإمبريالية»: «إن الامبريالية استقرت بالثقافة، وامتزجت أركانها بالثقافة المقاومة، وهو صراع بين الأمم الغالبة والأمم المغلوبة- حسب مفهوم العلامة عبدالرحمن بن خلدون - فالأمم الغالبة التي أباحت لنفسها حق احتلال أمم مغلوبة وقهرها وإذلالها استعملت الثقافة الإمبريالية، إما لتبرير طغيانها أو لتمرير مخططاتها.أما الأمم المغلوبة، فلم يكن تحريرها إلا بأداة الثقافة، التي زرعت الوعي وأيقظت الحس الوطني لرفض الاستعمار والمطالبة بالاستقلال». والإمبريالية في نظر إدوار سعيد، هي بمعناها اللغوي، بسط النفوذ الأجنبي عرقياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً من قبل أمة على أمة، تحت دعاوى التمدين أو الوحدة أو الإلحاق.‏

يبرز العامل الثقافي كأحد العوامل الأشد تأثيراً وأهمية في حركة التاريخ، إذ إن الثقافة تعيش في ضمائر الأمم وذاكرتها وهي صانعة المخيلة الجماعية ورد الفعل الشعبي. إنها عمل جاد وحقيقي، وهي تقوم بوظائفها في حماية تراث وتاريخ الأمة، وتحفظ للشعوب أدوات تقدمها واستمراريتها.‏

يقدم إدوارد سعيد أمثلة حول الثقافة الإمبريالية والفكر الاستعماري الإمبريالي، منها المثال الهندي، حيث فرضت المملكة البريطانية إمبراطوريتها/ إمبرياليتها على الهند التي كان عدد سكانها ثلاثمائة مليون نسمة، بجيش بريطاني قوامه ستون ألف جندي يرافقهمأربعة آلاف موظف،مع تسعين ألف مواطن بريطاني.والملفت أن الأدب البريطاني لم يتناول هذا الاحتلال على أنه احتلال بغيض ومدمر للشعوب الأخرى، بل استطرد جوزيف كونراد في تبرير الاستعباد البريطاني للهند في روايته «طريق الهند»، وكأن الأمر شيء عادي ولا يستدعي المناقشة والاعتذار، أو أن المد الإمبريالي شيء واجب على البريطانيين، ومن دونه لن تكون بريطانيا سيدة العالم.‏

وهنا يرى إدوارد سعيد أنت. س. إليوت وقع في المطب نفسه، حيث تقدمت في شعره الجماليات الشعرية والفضاءات الخيالية، وتراجعت الهمجية الإمبريالية، حتى كادت تختفي، وكأن القهر والظلم الذي طال الشعب الهندي، لا يحبذ أن يذكر في القصائد أو في التاريخ الإمبريالي.‏

ولا يختلف الاحتلال الفرنسي عن نظيره البريطاني، إذ إن الاستعمار الفرنسي للجزائر تحديداًوللمغرب العربي كله، لم يلق من أدباء فرنسا الكبار ومثقفيها أي إدانة - طبعاً باستثناء الفيلسوف جان بول سارتر والذي اكتفى بالتنديد بالقتل والعنف وليس بالاحتلال- واستقبلوا عمليات الإبادة الجماعية والتعذيب والتهميش والتجويع، وكأنهم يقرأون قصصاً مرت منذ آلاف السنين.‏

عملت الثقافة المقاومة في الجزائر والمغرب العربي كله على إطلاق شرارة الثورة، وقام بعض المتنورين بالعمل على إيقاظ الوعي الثوري والسعي إلى التحرر من الإمبريالية، وقد حدث ذلك فعلاً بفضل أسماء أصبحت منارة للأجيال القادمة، منهم: أبو القاسم الشابي، والشيخ بن باديس، والشيخ الثعالبي، ومفدي زكريا. وحول هذا يرى سعيد أن الفن والعلم يشكلان أسس الإمبراطورية، وإذا حاولوا نزعها عن جوهر الإمبراطورية سوف لن يبقى شيء يذكر. إن الإمبراطورية هي التي تتبع الثقافة وليس العكس.‏

ويقارن سعيد بين ثقافة المقاومة التي نشأت في الهند وبين ثقافة المقاومة في المغرب العربي. ويجد أن الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، تتشابهان وتتطابقان في الفكر والهيمنة الثقافية والاستعباد ونهب الشعوب. والمثال الذي يورده سعيد - والذي يدعو للسخرية من الثقافة الغربية -يتضمن إعلان الملكة البريطانية فيكتوريا عام 1876 نفسها ملكة على الهند، وإرسال نائبها إلى نيودلهي ليصبح حاكماً عليها، وكأن الأمر لا يتعدى كونه استخفافاً بالشعوب الأخرى، واعتبارها تابعة للإمبراطورية البريطانية، من دون أن يظهر مثقف أو مفكر ما، ويعلن أن الحرية هي من حق الشعوب جميعها، وليست حقاً غربياً. ومن المضحك حقاً أن الإمبراطورية الفرنسية - التي وطدت حقوق الإنسان في بيان عالمي - لم تتأثر أخلاقياً بحقوق الإنسان في الجزائر والمغرب العربي، حتى إن الفرنسيين أنفسهم لم يجدوا شيئاً لاأخلاقياً في احتلال بلاد الغير وإخضاعها واستغلال خيراتها وقتل ناسها. ففي حين كانت الأصوات تنادي بالحقوق العامة في فرنسا، كانت القوات الفرنسية تتغول في أصقاع الأرض وتتحارب مع نظيرتها البريطانية في الاستيلاء على مقدرات البلاد الأخرى!!‏

وكما تقوم الإمبراطوريات على الثقافة وتتأسس عليها، فإن التحرر أيضاً ومقاومة الإمبراطوريات يقومان على ثقافة المقاومة، ويتأسسان على الوعي والحق في التحرر وامتلاك الحقوق. ويحتاج العالم العربي اليوم إلى تغيير الصيغة المقاومة، أمام المد الجديد والهيمنة الكبرى التي تدعى العولمة؛ حيث اختلفت وسائل السيطرة لدى الإمبراطوريات، وحلت وسائل تقنية جديدة، تحتاج إلى آفاق جديدة في الوعي، واستيلاد أفكار تصلح للعيش في الزمن الحالي، وتستطيع الصمود في وجه الأمراض التي تدخل عالمنا بفعل التقدم.‏

تهدف ثقافة المقاومة إلى منع الاحتلال والاستعمار بكافة صوره، من احتلال العقول إلى احتلال الأرض. ويأتي احتلال العقول في مقدمة الاحتلالات التي يجب مقاومتها، إذ إنه يستهدف إرادة الإنسان في العيش ويغتال التفكير في المقاومة والحفاظ على الهوية. ولذلك فإن أخطر الاحتلال وأقساها وأكثرها تخريباً هو احتلال العقول. وهو ما تقوم به الإمبراطوريات الحديثة، بعد أن اضطرت لاستبدال أفكار الهيمنة العسكرية بالهيمنة الثقافية. وما على العربي الآن سوى التمسك بهويته ووطنيته، والدفاع عن حقوقه في أرضه وسيادته، وإرثه الثقافي، من دون أن يكون بعيداً عن حراك العالم والتقدم الذي يحدث.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية