|
مراسلون وتحقيقات ليذهب أي شخص ويقف على باب أية محكمة وليسأل أي صاحب دعوى أو مشكلة أو أي محام! منذ متى وأنت تتابع هذه الدعوى? هل دفعت رشوة أو إكرامية أو ما شابه? وحتى يمكن توجيه أسئلة لشريحة محددة من الناس تتضمن سؤالاً واحداً: هل تلجأ إلى القضاء إلا مكرهاً وفي الحالات القصوى? اجمعوا الإجابات وستكون أوضح من أية قصة. مع ذلك سنتناول الحكاية أو المفارقة, إن صح التعبير, من جانب آخر: خوف القضاة.. خلال محاولتنا الحصول على رأي بعض القضاة بإشكالية القضاء السوري لمسنا الخوف من الإجابة على أي سؤال, والسبب هو وجود تعميم , يحظر عليهم تناول أي أمر يتعلق بالمؤسسة القضائية, وحتى في وزارة العدل حاولنا الحصول على أرقام.. فقط أرقام بالدعاوى المقدمة والمفصولة أمام المحاكم وعدد المحاكم والغرف والقضاة, لإجراء بعض المقارنات.. لكننا فشلنا والسبب هو أننا بحاجة إلى موافقة مسبقة!! المفارقة هنا أن معظم المحاكمات علنية يستطيع أي مواطن حضورها في حين يخشى أي قاض أن يتحدث ولو بكلمة واحدة عن مسائل لاتتعلق إطلاقاً بدعوى محددة أو حتى بقضية جزئية, بل بموضوعات قضائىة عامة!! ومازاد من خوف القضاة هو التطهير الإداري الذي حدث مؤخراً في سلك القضاة, أو الأصح هنا طريقة التطهير الإداري, فقد عزل القضاة وأعفوا من منصبهم, وذهب بعض المحامين العارفين بخفايا الأمور إلى أن بعض هؤلاء المعزولين هم الأقل سوءاً, فمثلاً يرى المحامي خليل معتوق أنه من أصل سبعة قضاة وقعوا على فسخ القرارالقضائي المتعلق بنزاع حول اختلاس نفط سادكوب حوسب اثنان فقط وبطريقة تجعل القضاة الآخرين تحت طائلة الخوف إذاً, والمشكلة في قضائنا ليست في نزاهة هذا القاضي وعدم نزاهة ذاك, مع أن النزاهة هي عنصر جوهري في أي قضاء, بل هي في طريق عمل مؤسسة انتاج القضاة , ويمكن في إطار آلية عمل مؤسسة صحيحة أن يكون للتطهير الإداري جدوى وفعالية, كما يمكن أن يكون له أيضاً جدوى و فعالية في إطار إصلاح قضائي, وهذا الأخير أشمل وأعمق بكثير من الإجراءات التي اتخذت , هناك فصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية, وبناء عليه فإن السلطة القضائية تتمتع بالاستقلالية. ولإيضاح المشكلة من جذورها يتذكر المحامي حسن عبد العظيم مراحل تطور القضاء السوري قائلاً: مر القضاء السوري بعدة مراحل كان فيها القضاء السوري نموذجاً في الاستقامة والفهم القانوني والاجتهادات القضائية وسرعة الانجاز وكان وزير العدل في الخمسينيات نهاد القاسم, عندما يريد اختيار قضاة, يجري تحقيقاً سرياً حول كل واحد منهم ويسأل عنه كما لو أنه تقدم لخطبة ابنته, وبعد ذلك يختار الأكثر نزاهة وكفاءة. وفي منتصف السبعينيات ظل سلك القضاء بخير, لكن ظروفاً موضوعية اقتضت تطوير بنية المؤسسة القضائية, إذ ازداد حجم الدعاوى بحكم التوسع السكاني والتطورات الاجتماعية وصار يفوق عدد القضاة , وطرح الموضوع على مجلس الشعب, وتقدمنا يومها بدراسة موسعة عن أوضاع القضاة وأجرينا مقارنة بين عددهم في بداية الستينيات وعددهم في بداية السبعينيات ومقارنة بين أوضاعهم وأوضاع نظرائهم في الدول المجاورة, ولم يكن هناك خلل من حيث النزاهة, بل من حيث عدم تناسب عدد القضايا مع عدد المحاكم والقضاة. ويعتقد القضاة أن إعادة الاعتبار للمبدأ الدستوري هو الخطوة الأولى على طريق الاصلاح. لنتقدم خطوة في مناقشتنا لإشكالية القضاء, بما أن خزائن وزارة العدل موصدة على الأرقام الإحصائية فقد استعنا بالمجموعة الإحصائية لعام 2003 وسنستعين بمؤشر واحد من المؤشرات القليلة المتوافرة فيها وهو عدد القضايا الجزائية المفصولة . ونلاحظ أنها بلغت 80513 عام 1982 وبدأت تنخفض عموماً حتى وصلت إلى 28899 عام 1989 لتبدأ بالارتفاع من جديد وتصل إلى 84445 عام 1996 وتحافظ بعد ذلك على ثبات نسبي يتراوح بين 107490- 126996 وذلك بين عامي 1997- ,2001 فماذا يعني ذلك? أو بالأحرى ماذا يمكن أن نستنتج? بما أن الاحصائيات لم تذكر عدد القضايا المقدمة إلى القضاء فإننا لا نستطيع أن نجزم بأن المسألة مرتبطة بتأخير البت في الدعاوى, لكن اللافت هو بقاء عدد الدعاوى الجزائىة ثابتاً بالمعنى المطلق خلال اثني عشر عاماً رغم معدل النمو السكاني المرتفع, واللافت أيضاً انخفاض عددها عام 1989 إلى ما يقارب الثلث عن عام 1982 رغم الأزمة الاقتصادية التي استمرت منذ عام 1983 حتى مطلع التسعينيات, فكيف يمكننا تفسير ذلك? هل يمكن القول إن هذه المؤشرات الإحصائية تشير إلى درجة الثقة بالقضاء? هل يمكن القول إنها تشير إلى تدخل جهات تنفيذية اخرى في عمليات المحاسبة ولاسيما في ظل قانون الطوارىء المعلن? اي هل يمكن القول إن هناك تناسبا عكسيا بين درجة استخدام قانون الطوارىء وفعالية السلك القضائي? كلها اسئلة مطروحة وبحاجة إلى استكمال معطياتها الإحصائية والإجابة عليها من طرف وزارة العدل. لنتقدم خطوة اخرى ايضا وهذه المرة حكايا لا تنتهي عن دعاوى مازالت مستمرة منذ عشرات السنين بل إن احدى الأعمال الدرامية قدم منذ أكثر من عشر سنوات نموذجا لدعوى قضائية حول منزل, يموت صاحب الدعوى على درج القصر العدلي وتبقى قضيته عالقة. وغير بعيد عن هذا الجو وجدنا المواطن محمد أحمد المحمد من ناحية الشجرة غرب المزيريب جالسا على الدرج ذاته الذي سبق للعمل الدرامي تصويره محتضنا رأسه بين يديه ومنتظرا محاميه. والقصة هذه المرة ليست دراما بل حية وواقعية فقد اشترى شقة عام 1986 من صاحب مكتب عقاري عن طريق الكاتب بالعدل ثم سافر الشاري إلى اليمن ليعود ويجد شقته مباعة من قبل الشخص ذاته لزبون آخر بعقد, وصدر حكم استئنافي منذ أربع سنوات وحتى الآن وصل عمر الدعوى إلى عشرين عاما فقط ولايطلب المحمد شيئا اليوم سوى أن يعرف قبل مماته هل الشقة له أم ليست له?!! القصة الأخرى من القصر العدلي بريف دمشق في الزبلطاني فقد ادعى شخص على راتب زين الدين من بيت سحم بسرقة طرد سكاكر بقيمة 500 ليرة سورية في الشهر العاشر من عام 1994 وسجن لمدة ستة أشهر, كانت المحكمة بدوما وانتقلت إلى الزبلطاني وأدى المتهم الخدمة الإلزامية وتزوج وصار لديه ثلاثة أولاد وهو مضطر حتى الآن إلى الحضور كل شهرين إلى المحكمة لأن القاضي لايستطيع أن يحكم دون حضور المدعي وهذا الاخير لايحضر اذا لم يحضر المدعى عليه ويصدر الحكم بحقه غيابيا, وسبق أن حكم في القضية ذاتها غيابيا مرتين الأولى لأنه لم يحضر بسبب وفاة والدته والثانية بسبب مرض والده, وأضاف زين الدين إنه وصل الآن إلى مرحلة لم يعد يريد فيها البراءة ولم يعد يهمه بعد اثني عشر عاما اي حكم سيصدر بحقه المهم ان يصدر وحسب. هنا ندخل إلى الجانب الإجرائي في العمل القضائي وقبل الخوض فيه لابد من التنويه إلى آثاره السلبية الكثيرة وأهمها فقدان الثقة بالمؤسسة القضائية بل إن المتخاصمين فيما بينهم يهددون بعضهم البعض بالدخول إلى ساحة القضاء لأن من يدخلها سيكون حتما خاسرا سواء خرج منها غالبا أم مغلوبا. يروي المحامي زياد الحليبي من فرع دمشق الواقعة التالية بعفوية: ذات مرة قال أحد أطراف النزاع للآخر ( وكان موضوع النزاع منزلا) أقسم بالله أدخلك إلى القضاء ولا أخرجك منه بخمسة عشر عاما وهكذا اضطر الطرف الآخر للصلح بمساومة مالية. ويؤكد الحليبي أن طول إجراءات التقاضي تتعلق بنوعية الدعوى المنظورة أمام القضاء فمثلا لا يمكن تلاقي يطول في دعاوى الإرث ولكن يمكن تلافي التباعد بين الجلسات وسرعة الفصل والبت كما يمكن تطوير القضاء واستخدام التقنيات الحديثة في التبليغ كأرقام الهواتف الثابتة والجوالة والبريد الالكتروني ووسائل الاعلام الخ, وضرب مثلا حول كيفية التبليغ المتبعة قائلا: إن القاضي يعطي التبليغ للكاتب, الكاتب للمحضرين والمحضر للشرطة, الشرطة لقائد الشرطة في المحافظة, قائد الشرطة إلى قائد الشرطة في محافظة آخرى, ومنه حسب الصلاحيات والاختصاص يوزع إلى قرى أو مراكز مدن أخرى الخ. وأكد الحليبي أنه ما زال يطلب السجل العدلي في الدعاوى الجزائية للمدعى عليه عن طريق البريد بينما يمكن تلافي ذلك عن طريق الأتمتة, مضيفا أن الدخول إلى القضاء يرعب المستثمرين عندنا وأن بعضهم طالب بسرعة البت أو إيجاد هيئة تحكيم للفصل في النزاعات. ويبدو أن المسألة أو المشكلة ليست فقط في الحصول على الحكم القضائي بل إن الأمر يتجاوزه إلى تنفيذ هذا الحكم فمثلا يقول المحامي عبد الناصر سنان إنه حصل على حكم قطعي عام ال 2000 في دعوى تتعلق باختلاس رئيس مجلس إدارة جمعية سكنية مبلغا قدره 248 مليون ليرة وصدر حكم بإلزام رئيس الجمعية وشركائه المبلغ ولم يتمكن من التنفيذ مع أن هناك خمسين عقارا محجوزا لأن قانون أصول المحاكمات المتعلق بالإجراءات التنفيذية لم يعد يتلاءم مع متطلبات العصر فيفتعل الخصم العراقيل مستغلا الثغرات القانونية يساعده في ذلك موظفو التنفيذ ويرهب قاضي التنفيذ ويهدده بتقديم شكوى ضده, وهذا ما دفع العديد من القضاة إلى التنحي خوفا واذا ما جاء قاض جريء يبادر الخصم إلى رفع دعوى عليه, ووصل عدد القضاة المردودين في هذه الدعوى إلى 22 قاضيا حتى الآن.. فهل هذا معقول?! نعود إلى أسئلة البداية لكن بطريقة اخرى اسألوا هذه المرة أي محام كم مرة لجأ إلى الرشوة? وأعيدوا صياغة السؤال: كم مرة اضطررت إلى الرشوة في سلك القضاء?بالتأكيد ستحصلون على عدد لافت من الإجابات وعلى نوعية لافتة منها ايضا وبعد ذلك اسألوا المحامي أن يذكر لكم أسماء القضاة النزيهين بكل معنى الكلمة في رأيه. المحامي حسن عبد العظيم ابتسم إزاء هذه الأسئلة وعندما سألناه عما يدفعه داخل القصر العدلي أجاب: إن الإكراميات هي من طبيعة الأشياء وينبغي عدم التحدث بها لأنها ليست مشكلة, أما المحامي عبد الناصر سنان فلفت انتباهي إلى ناحيتين: الأولى أنه اضطر كثيرا لدفع الرشوة بل إنه طلب ايقاف التسجيل ليقول إنه قدم رشاوى عينية طريفة, مضيفا أن الرشوة ليست دائما نقودا واحيانا يمكن أن تكون خدمة من القاضي لمسؤول مقابل خدمة أو خدمات يقدمها الطرف الآخر كتوظيف قريب أو نقل موظف الخ.. وعندما وجهنا الأسئلة ذاتها إلى المحامي طلال ابراهيم قال إن 80 % من المحامين يلجؤون إلى رشوة القضاة ولما سألناه كيف يعيش هؤلاء ال20% الباقين وهل يعملون? أجاب ضاحكا : هؤلاء لايعيشون ولايعملون. عود على بدء, المشكلة تكمن في استقلالية القضاء وحصانته وحصانة القضاة ولاشك أن التطهير الاداري الذي حدث مؤخرا هو خطوة ايجابية اذا ما كان في إطار اصلاح قضائي أشمل يتناول القوانين والأنظمة والتشريعات وإجراءات التقاضي وآليات اختيار القضاة, ويمكن تطبيق معايير تقلص من إمكانية فساد أو إفساد القضاة مثل تأمين مستلزمات عيشهم بشكل لائق وتحصينهم ومنحهم الاستقلالية الكافية عن باقي السلطات والأهم هو تقديمهم قبل دخولهم سلك القضاء بيانات عن أموالهم المنقولة وغير المنقولة وأموال أسرهم وأن تتم محاسبتهم على اي تضخم غير مبرر في ثرواتهم ولو بعد خمسة عشر عاما من مغادرتهم السلك القضائي, وهذا لاينطبق عليهم وحدهم بل على كل من يتسلم منصبا حكوميا لأنه كما قال أحد المحامين فساد القضاء سببه الفساد الحكومي ليس إلا.. |
|