تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مقولة الوطن ... في ديوان (تغريد قبَّرة)

ثقافة
الأحد 30/10/2005م
د. عصام الكوسا

لعل أهم ما يميز ديوان الشاعر محمد طارق الخضراء (تغريد قبرة) أنه ديوان جسد صاحبه عبر قصائده الثلاث والعشرين ثنائية القول والفعل

تجسيداً حقيقياً فالتعبير الفني هو صورة للممارسة اليومية الفعلية التي يحياها الشاعر, وأهم ما يجمع هذا الديوان أنه يدور في فلك الوطن, يعايش قضاياه, ويعبر عنها, مصوراً المأساة والتشرد وكل ما يعانيه الفلسطيني المشرد عن وطنه بقوة المحتل. وهذا التصوير الفني يتماهى مع نزعة رومانسية واضحة يبرزها العنوان (تغريد قبرة) الذي يمنح التفاؤل من عمق المأساة, ويزرع الورد وسط الخراب والدمار ليمنح قارئه الأمل في مستقبل, لا شك سيكون حتماً أفضل.‏

تبرز مقولة الوطن في الديوان عبر بؤر دلالية كثيرة تتضافر لتشكيل هذه المقولة, ويمكن التوقف عند بعضها فيما يأتي:‏

1- ثنائية الشموخ والصمود:‏

تبرز هذه الثنائية عبر الإضفاء على المكان أبعاداً بطولية, وهذا على سبيل المجاز فالمكان الشامخ هو تعبير مجازي عن مقاومة سكانه واستبسالهم في الدفاع عنه, وهذا ما يبرز في قصيدة (الشموخ جنين), إذ يسيطر الموت على المكان (جنين) ليحيل كل ما حوله الى دمار:‏

الظلام.. رمادٌودخان‏

والقمر الأحمر الدامي‏

نزف.. عدوان‏

والبستان.. شوّهته‏

الخفافيشُ‏

ولم يعد بستان‏

والحق.. عُرس لشهيد‏

يشيّع‏

ودمار.. وأحزان‏

والعروس... بقايا طفلة‏

وشظايا قنبلة‏

فجزئيات المكان/الوطن استحالت الى صورة موت مسيطر عبر إضفاء الظلام والدخان على أرجائه, كذلك حوّل الشاعر المفردات التي ترمز الى الجمال في العرف اللغوي الى مفردات تحمل دلالة الموت, فالقمر والبستان يرمزان الى الجمال والخضرة ولكنهما استحالا الى رمز للدمار في النص, ويهدف الشاعر من وراء ذلك الى تصوير فداحة الفاجعة التي أصابت الوطن الذي تمثل في مخيم جنين, وبالمقابل نجد الخفافيش طيور الظلام التي تدلل على المحتل, واعتماد الشاعر على هذا الرمز فيه ذم مُبطّن, فالخفاش ابن الليل, وهو ابن الخوف, وهذه السمات تنطبق على المحتل الصهيوني الذي يحاول أن يجعل كل ما حوله ظلاماً ليجد فيه بغيته ومعاشه.‏

ثم يحاول الشاعر في المقاطع الآتية الاستطراد في تصوير حالة الموت المسيطر, فنرى الأم ثكلى, والطعام استحال غباراً, والصدر مخنوقاً, والبيوت غدت ركاماً, والفرح صار شهيداً, ولكن رغم هذا الموت الذي حاول أن يسيطر على المكان تبزغ وردة الأمل والتفاؤل, وتأتي أهمية هذا التفاؤل من كونه يأتي من عمق الألم والموت, ويتجلى هذا التفاؤل عبر التركيب الانزياحي: (وأشلاء الشهيدة سنبلة) فالموت عادة هو نقيض الحياة, فالموت الذي تمثل عبر لفظة (الشهادة) مضافة الى (أشلاء) توحي بموت يقدم قرباناً للوطن ليحيا, وهذا هو الموت الوحيد الذي يولد الحرية, فلا أنبل من أن تقدم الأرواح من أجل مستقبل حر ومزهر.‏

2- ثنائية الهوية والوطن:‏

ربما ينظر الى الهوية على أنها تتماهى مع الوطن, وهذا في العرف ليس كلاماً جديداً ومبتكراً, لكن تبرز أهمية الهوية كتعبير عن الوطن من خلال اقترانها بالفلسطيني الذي لا يفتأ يعلن دائماً عن هويته الفلسطينية, وفي هذا الاعلان تأكيداً على الهوية التي حاول المحتل أن يمحوها من الوجود, فجاء الاعلان عن الهوية تعبيراً عن التمسك بالوطن, وهذه الحالة برزت بشكل جلي في قصيدة (فلسطيني) التي تعبر عن رجل ابتعد عن الوطن قسراً, ولكن الوطن لم يغادر سويداء قلبه أبداً, ويأخذ التعبير عن الهوية لدى الشاعر محمد طارق الخضراء, شكلاً مختلفاً, إذ ينطلق الشاعر من الجزء للتعبير عن الكل, ومن هنا نجد ألفاظ شجرة الزيتون, وغابة الليمون وروضة الأزهار, فهذه الألفاظ غدت لُحمة هوية الفلسطيني وسداها في انتمائه الى الوطن (فلسطين), فيقول:‏

ترى يا قومُ‏

فيكم من يعرّفني.. يناديني‏

أم التشرد‏

بعثرها... تفاصيلي‏

مضاميني‏

أنا من شجرة الزيتون‏

لا تفنى شراييني‏

أنا من غابة الليمون‏

والرمان‏

والتين‏

أنا من روضة الأزهار‏

أروّيها فتحييني‏

والطريف أن القصيدة هنا, مثل قصائد الديوان كلها, تلجأ الى التفاؤل والتحدي في تأكيد الهوية من خلال قفلة القصيدة التي تنتهي في بنائية النص بالتفاؤل, موحية بأن الحياة والحق سيهزمان الموت, وسيستعيد الفلسطيني أرضه, لذلك نرى الشاعر يؤكد ذلك بإعادة لازمة بداية القصيدة:‏

أنا من شجرة الزيتون‏

لن تفنى شراييني‏

أنا أسطورة كبرى‏

أنا عربي فلسطيني‏

3- ثنائية الطفولة والوطن:‏

يبرز الوطن في هذه الثنائية عبر استعادة صورته من الذاكرة, تلك الذاكرة التي تخزن أدق التفاصيل عن الهوية في رحاب الوطن, تلك الطفولة التي علقت بالذاكرة, ولكن الشاعر يمزج هذه الصورة بذكرى الأهل مع الدمار والخراب, وهذا ما نلمحه في قصيدة (نبض الوطن) التي يوحي فيها هذا التركيب الاضافي عن امتزاج الوطن بالدم والقلب, وهما رمز التعلق والحب, يقول:‏

بأعماق روحي.. وفي‏

ذكرياتي‏

أراني طفلاً صغيراً مشرد‏

وتحت الخرائب.. تبكي‏

رفاتي‏

فامسح دمعي وأنهض‏

أولد..‏

وأهلي من القهر‏

تنسى سماتي‏

وبين القذائف والنار‏

تُجْلد...‏

4- الأسطورة واللغة:‏

يعتمد الشاعر كثيراً على الأسطورة في بناء الصورة الفنية في نصّه, وفي إطار بناء المقولة الدلالية التي يريد الشاعر تأكيدها, ومن هنا نلحظ تكرار أسطورة (ايزيس وايزوريس) الفرعونية, وعشتار, وغيرها, كما يعتمد الشاعر أحياناً على ترميز بعض المفردات, كما لاحظنا في رمز الخفافيش, وكما يُلحظ في رموز, مثل البركان الذي استحال رمزاً للثورة والزيتون والليمون اللذين استحالا رمزاً دالاً على الوطن, والسنبلة والنخلة اللتين اقترنتا بالطفولة وحب الحياة.‏

ويوظف الشاعر أحياناً الرمز ليصبح خلفية تراثية لنصه, ولكنه يعيد تشكيل هذا الرمز ليقدّم دلالات معاصرة, وهذا ما يمكن أن نلحظه في قصيدته (عشق الوطن) الذي يندغم فيه صوت الشاعر مع الرمز (زرقاء اليمامة) التي كانت تتمتع برؤية بصرية حادة ليسقط دلالة الرمز التراثية على الواقع, يقول:‏

ناديت زرقاء اليمامة‏

أسرعي‏

جاءت..على أمواج صحراء‏

حزينة‏

في حُطام‏

من جمال..أو سفينة‏

ومشت..على رمش الكفن‏

فاستعانة الشاعر بزرقاء اليمامة هي استعانة للرؤية التي كانت تتمتع بها زرقاء اليمامة, هذه الرؤية التي يقابلها في زمن الشاعر المعاصر رؤية قاصرة للواقع والمستقبل, ولايكتفي الشاعر بذلك, بل يحاول أن يجعل من الزرقاء صوتاً للحقّ, لذلك يلجأ إليها ليبثها صورة الواقع القاتم فيقول:‏

زرقاء..لاتستغربي‏

من مشهد القتل المريع‏

والتباهي أنه قتل حنون‏

وأصوات قهر الأمهات‏

الباكيات‏

ضجيج إرهاب الفتن‏

وإرادة الأطفال..كالطود‏

الأشم.‏

ومن هنا لايتردد الشاعر في البحث عن الرؤية الثاقبة التي كانت تتمتع بها زرقاء اليمامة في محاولة للكشف عن زرقاء جديدة, فتمثل في رؤية جديدة تحاول أن تبرز الأمل في واقع قاتم فيقول:‏

وأنت يازرقاء‏

أين النظرة الحمراء‏

أين بصيرة الزرقاء في‏

زمن المحن‏

وقد اعتمد الشاعر كليا على السرد, وهي وسيلة فنية تدل على قدرة الشاعر على التفصيل في الحالة المعبّرة عنها, والتي أوقعت الشاعر بداء النثرية التي تخفف من البريق الشعري كما أنه اعتمد على اللغة القريبة التي تبتعد عن المطبات الكثيرة التي توقع النص الشعري بداء الانغلاق على المتلقي فيعرض عنها, وكأني بالشاعر يهتم كثيراً بأن يصل نصه إلى أكبر شريحة من المتلقين مهما كانت ثقافتهم, وهذه اللغة, وإن كانت تراعي التواصل كثيراً مع المتلقي, إلا أنها في بعض الأحيان تبتعد عن الوظيفة الشعرية التي تعتمد على خرق المألوف.‏

ولابُدّ أن نشير إلى أنّ الشاعر محمد طارق الخضراء الذي يستند كثيراً على ثقافة تراثية كما يتجلى ويتضح في نصه, يبقى مؤمناً دائما ومتفائلاً بعدالة قضيته, ومن هنا تنفرج طاقة الأمل التي تؤكد أن الحق لابُدّ منتصرُ, وإن تمادى الطاغي في غيّه واستبداده, وهذا ما يبرز في قصيدة (دموع التماسيح) الذي يصور فيها الحمل الثقيل من المآسي الذي يحمله الفلسطيني على ظهره, ولكنه يبقى قوياً لأنه يستند إلى إرث ومجد عتيدين, يقول:‏

جمل المحامل والمآسي‏

يافلسطيني..وأنت شريد‏

مجد تليد..وشعب عتيد‏

ويبرز بشكل واضح هذا التفاؤل في نص (بشائر الحرية) حيث يعلن فيه إيمانه بالحق وتفاؤله بالنصر لايتزعزع, وذلك من خلال إسقاط حصون القهر في مدن الفجيعة وتحطيم احلام الغاصبين أمام قوة الشهادة, يقول:‏

سقطت حصون القهر‏

في مدن الفجيعة..في القطاع‏

وغاب حلم الغاصبين‏

ويمزج هذا الأمل بانتصارات الواقع وإن كان الطموح يبقى دائماً أكبر, لذلك نرى الشاعر يخاطب أهل غزة, بعد أن يعرض بالمتشائمين الذين ظنوا بأن الأرض ضاعت فيقول لهم إن الحق آتٍ:‏

في وطن الكرامة والإباء‏

والأرض عادت قرة‏

والحق جاء..اليوم جاء‏

هنيئاً لكم يا أهل غزة‏

باندحار الطامعين‏

وبالتحرر والجلاء‏

أخيراً لاشك في أن الشاعر محمد طارق الخضراء قد جسد مقولة شاعر السيف والقلم خير تمثيل في ديوانه, مما يجعلنا ننتظر ما يجود به قلمه من غيث مغموس باللون الأحمر, لون الثورة والنصر.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية