تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الرئيس التركي في أرمينيا... قطف ثمار العقلانية

شؤون سياسية
الأثنين 15/9/2008
د. جهاد طاهر بكفلوني

عندما أعلن الرئيس التركي( عبد الله غل) أنه عازم على التوجه إلى أرمينيا ظن المراقبون السياسيون أن ما يسمعون من كلام لن يكون قابلاً للظهور على أرض الواقع, فبين تركيا وأرمينيا ليس ماصنع الحداد فحسب بل ماصنع جميع أرباب المهن الأخرى,

وفي الأحوال كلها كان من المنتظر أن يترك مثل هذا النبأ وقع المفاجأة المدوية في نفوس الكثيرين.‏

ومضى الرئيس التركي في طريقه إلى العاصمة ( يريفان) معلناً عن رغبة بلاده في طي ملف الماضي بكل ماعلق فيه من خلافات بدت لزمن طويل غير قابلة للتجاوز أوالنسيان.‏

ولم يتردد الرئيس الأرميني (سيرج سركيسيان) في رد التحية بأحسن منها, فقال بعد اختتام لقائه مع (غل): إن البلدين سيحلان مشكلاتهما ولن يتركاها للأجيال القادمة, وقبل دعوة الرئيس التركي لحضور مباراة الذهاب في كرة القدم ضمن تصفيات أوروبا المؤهلة لكأس العالم, ورأى في الدعوة بداية جيدة لتصفية سماء العلاقات بين الدولتين, وهي سماء حافلة بغيوم الشك والريبة والنظر إلى الماضي كحجر عثرة يقف حائلاً دون قيام علاقات طبيعية بين الدولتين.‏

الزيارة بالمقاييس كلها كانت نتيجة ناجحة ما في ذلك أدنى ريب, وحسبها أنها استطاعت رمي حجر كبير في بركة طال ركود الماء فيها حتى أصبح آسناً, وسيكون لها نتائج إيجابية ملموسة تظهر في القريب العاجل كما يتوقع المراقبون السياسيون, وإن كانوا يشددون على أن طريق الوصول إلى علاقات طبيعية بين تركيا وأرمينيا طريق طويل محفوف بالمنعطفات المعقدة والمزالق الحساسة الخطرة.‏

لكن السؤال الذي تردد على شفاه هؤلاء المراقبين ظل يحول حول توقيت الزيارة والأسباب التي دفعت تركيا للإقدام على هذه الخطوة التي يمكن وصفها بكل بساطة وتجرد بأنها خطوة تاريخية.‏

ويمكن الوصول إلى جواب هذا السؤال من خلال استعراض طبيعة السياسة الخارجية التركية اليوم في ظل قيادة حزب العدالة والتنمية سفينة الحياة السياسية التركية.‏

هذه السياسة تتصف بالانفتاح على العالم ولاسيما دول الجوار, بالعقلانية التي تدرك أهمية وزن تركيا الجغرافي والاستراتيجي والجيوسياسي, بالجمع بين التكتيك والاستراتيجية في نسق هادىء يأخذ بعين الاعتبار مصالح تركيا والثقل الإقليمي الذي باتت تتمتع به.‏

ويمكن العثور على أدلة مباشرة لكل وصف أسبغ على السياسة التركية, فعلاقات تركيا مع الدول الجوار كسورية والعراق وإيران واليونان علاقات ممتازة بعيدة عن التشنج تدرك أن عالم اليوم لم يعد عالماً ممزق الأوصال بل أصبح جسداً واحداً يحتاج درجة عالية من الانسجام والتنسيق بين خلاياه وأجهزته العضوية ليحافظ على إيقاع وجوده صافياً من كل نغم نشاز, ولقد أدركت الدول الكبرى أن تركيا اليوم مرشحة للتعامل مع ملفات إقليمية شديدة التعقيد ولم تر مانعاً من اضطلاع تركيا بدور المساهم في فك عقد هذه الملفات والقيام بدور أساسي في حلها وها هي الدبلوماسية التركية تتحرك بمرونة وحنكة تشهدان على أنها أهل للتعامل مع القضايا الشائكة.‏

وإدراكاً لأهمية ثقلها الإقليمي فقد نجحت تركيا في الوقوف ضمن دائرة تتيح لها الدفاع عن مصالحها بوعي وهدوء بعيداً عن الانجرار مع النزعات والأهواء الطائشة, و كلنا يتذكر موقف تركيا قبل الغزو الأميركي للعراق عندما رفضت استخدام أراضيها كجسر لعبور القوات الأميركية الغازية إلى أرض الرافدين.‏

ولأن تركيا تعرف أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هدف استراتيجي مهم فإنها صبرت على كل الدعوات التي طلبت بإبقائها خارج هذا الاتحاد, واستطاعت القفز فوق الحواجز التي نصبت لها لتظل بعيدة عن الاتحاد الأوروبي, وتشير المعطيات إلى أن تصميم تركيا على الوصول إلى هذا الهدف كفيل بنجاحها في ذلك.‏

وها هي اليوم تتعامل مع الملف القبرصي الذي ينظر إليه كأحد أكثرالملفات تعقيداً تعاملاً براغماتياً, وتعلن أنها لاتعارض قيام قبرص موحدة تجمع بين الشطرين التركي واليوناني في إطار دولة واحدة.‏

لقد كانت زيارة الرئيس التركي لأرمينيا تتويجاً لخطوات سبقتها تشير إلى عزم السياسة الخارجية التركية على قطف ثمار الروية والعقلانية والواقعية, وهي السمات الأساسية لهذه السياسة التي تنقل بلاد الأناضول من نجاح إلى آخر, وهو نتيجة طبيعية لزرع اجتهد زرّاعه في رعايته والعناية به فآتى أكله كما أحبوا وأرادوا.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية