تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حديث الساعة

الرسم بالكلمات
الأثنين 15/9/2008
إنعام أبو غانم

ما مررت بالسوق يومها لغاية التسوق, كان همي ساعتها أن أمشي وحيداً, هارباً من ملاحقة العيون... وغاضاً نظري لئلا تدخل الأصابع المشيرة بالجنون فيّ.

في كل مرة كنت أمر بالساعات التي تتفاخر كالصبايا على واجهات المحال الزجاجية, دون أن ألتفت, إلا أنني الآن وقد خسرت فرصة جديدة في سفر بعيد إلى مكانٍ أُتوج فيه دهوراً بائدة ببعض الانفراجات المادية والرقي المعنوي, أنا النكرة المتحملة للخسائر كلها, لخلل بسيط لا يزيد عن دقائق عشر زلت بها ساعتي صبيحة هذا اليوم الثقيل.‏

لذا فقد قررت وبشكل قاطع لا تراجع فيه أن أسحق تلك الساعة أو آتي لها بضرة منزلية, تحثها على الركض بمحاذاتها دون أن تدري فتتدارك وقتها ثم لاتعود إلى تقصير مماثل في الوقت القادم.‏

كنت أفكر في تلك الساعة كما لو أنها بحق زوجة مهملة تستحق عقوبة الزواج الجديد.‏

لم يطل التفكير كثيراً قررت ثم دخلت متجر الساعات وأنقدت صاحب المتجر ثمن أفضل ساعة لديه ترن دون هوادة ما إن تأمرها أن توقظك في وقت محدد, حتى إن البائع قال: إنها لن توقظني وحدي بل ستظل تزمجر حتى توقظ ساعتي القديمة, ثم ضحك وصب ضحكاته ماءً مقطراً في قلبي.‏

حملت الساعة الجديدة وكأنها تساوي الحلم الذي صار منذ ساعات سراباً متطايراً.‏

حين وصلت إلى البيت, بدأ التعب يأكلني مبتدئاً برؤوس أصابعي ثم مرتفعاً إلى أعلى كماء يغلي, فوضعت الساعة الجديدة وافترشت الأرض الباردة. لأثبت لنفسي ثانية نظرية أكيدة مفادها أن زمن النوم يركض بينما يمشي مختالاً مزهواً زمن الصحو.‏

الآن وقد نمت ما يقارب الثلاث أو الأربع ساعات على أرضية الغرفة,وما استيقظت حتى قرصني برد الأرضية أخيراً, فصحوت وأعددت إبريقاً من الشاي والصحو والدخان معاً.‏

ولاحقاً فتحت باب شرفتي, وأسندت ظهري إلى حائطها, وأخذت أعب الشاي والدخان والصحو معاً.‏

صحيح أن الوقت بدا ككهل ينتقل ببطء في أول الأمر, لكنني حين دخلت نوماً جديداً, أثناء وقوفي في شرفتي لم أصحُ إلا والليل قد أنام المدينة بأسرها تحت وطأة الظلام.فشعرت عندها أنني الوحيد الذي يقف في هذه الساعة مواجهاً استبداد الوقت. تذكرت الساعة الجديدة فدخلت أراقب حركاتها, وبعد حوالي النصف ساعة من التك..تك تأكدت أنها دقيقة الخطوة فقررت أن أنام لأصحو غداً في وقت مقابلة جديدة في سفارة جديدة كموعد لتتويج جديد, أطفأت أضواء البيت, ووضعت رأسي إلى جوار رأسها لأسمع أقاصيصها وأتأكد أنها لن تسكت ولن تتركني نائماً لعشر دقائق تهدم حلماً جديداً.‏

كان حديثها مملاً متعباً, لا يسمح بالنوم كما لا يؤنسني أثناء اليقظة, ولما أجهد الفراش تقلبي.. علا زعيق استغاثته, لكن فكرة أن الساعة قد لا تواصل حتى الصباح كادت تقتلني, فسهرت معها حتى الصباح.‏

وحين بدأت ترن وتزأر في وقتها, كان النعاس قد أكل رأسي مجدداً, لكني لم أنم حتى بدأت الساعة القديمة تجاريها بالزمجرة والأنين بعد زمن يقارب العشر دقائق.‏

لأني نسيت الكلام‏

صرخت في نفسي غير مرة أستحثها أن تقول.... فأنا ما جئت اليوم لأصمت وهي تدري كم بذلت لأصل هنا?.... تعرف كم من الزمن انقضى وأنا أنتظر هذا المثول?‏

كان عليّ حينها أن أعرف سبب عزوفها عن الكلام, فنهضت ولم أكن لأفعل فالقوائم الثابتة كانت ترتعش وأنا لم أكن أدرك?! .....وماذا عليّ أن أدرك?!‏

إذ ذاك نظرت إلى جسدي المحشوِ في الملابس, هل أملأ أنا ملابسي? أم أنني ذلك الطفل...?‏

الطفل الذي جرب ملابس الكبار وهو يرتعش من أفكار الخوف المحشوة في الرأس الهش.. علمت وقتها أنني أملأ ملابسي وأنها تناسبني كما لو كانت لي فعلاً.‏

صرخت في نفسي, لا مشكلة ,تكلمي فأنا أملأ ملابسي انظري أملؤها.‏

لكنها لم تستجب, بقيت صامتة.‏

في محاولة جديدة لمعرفة سبب السكون, نظرت إلى قامتي مجدداً, أليس من الممكن أن أكون شهرزاد? شهرزاد التي باغتها الصباح فصمتت ماضيةً إلى موتها دون أن تعده بالأجمل المنتظر, لكن الجسد المحشو في الملابس كان جسدي, أنا الرجل الذي أسروا له في غفلة الأعين والزمن... إن لزم الأمر انزل إلى نعله.. تمسح به.. وقد يقذفك بحنان إلى أعلى فتنتصب مجدداً وتنتصب رؤاك دائماً.. افعلها.. لا تستح, أنت تعرف الحياء للنساء.... والمهم أن تصل... إذن فأنا لست شهرزاد... فهل من الممكن أن أكون شهريار?!‏

كانت عيناي مجدداً تجولان في المكان, تستظهران الأخيلة خلف الستائر, لتعرفا إمكانية وجود أحد أولئك الذين يتقافزون حنقاً... يمدون ألسنتهم بوجهي... يعضون شفاههم.... يلمحون إليّ لا تتكلم... لا تقل ويلك... ويحك... لا تله الناس بقضاياك التافهة, لكني لم ألمحهم... لم أسمع هدير أصواتهم, لم أشعر بالهواء مسرعاً بعد أن تركته الأكف المنهالة عليّ حتى إني لم أرَ تلك الأكف.‏

أنا لم أعد أعرف من أنا ولا سبب ذلك الصمت في هذا المكان الذي وصلت إليه بشق الأنفس بعد أعوام الانتظار الطويل وأساليب الوصول الرخيصة.‏

عندها صرخت فيّ نفسي أن أنظر إلى حالتك.‏

كنت أظن إنها تقصد شيئاً ما محدداً بعينه, وبعد أن تفحصت كل ما في ولم أجد ما هو جدير بالصمت أدركت أن السبب صغير.‏

ألا يمكن أن يكون? ... صرخت نفسي.‏

عندها قلت: ويحك نظفت فمي جيداً, واستخدمت المطيبات, قلت ذلك وأنا أتحسس بلساني زوايا فمي وواجهة أسناني, آمنت عندها ولأنني لم أعرف سبباً كبيراً كان أو صغيراً أنني نسيت الكلام.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية