|
شؤون ثقا فية وكان له من العمر آنذاك ستة وعشرون عاما وهو سن مبكر يلفت النظر ويسترعي الانتباه, حين ينشر لصاحبه أول ديوان في حياته عن مؤسسة رسمية, ويحمل في معانيه أكثر من دلالة إيجابية أهمها اعتراف من رأس السلطة الثقافية في الوطن بموهبته وإبداعه وبالشعر الحديث أيضا. وقد شغلتني هذه المجموعة الشعرية الرائدة في حركة الحداثة الشعرية في قطرنا. فكتبت في حينها دراسة نقدية تحليلية لها أحتفي بها وأقّومها كشعر نضالي ملتزم, عاش شاعره آثار النكسة الحزيرانية المؤلمة والمحبطة فصاغ من خلال معاناته نشيدا لائما احتجاجيا حزينا منددا بسلبيات التخلف والتجزئة والأحلام المهيضة ولكنه في الآن ذاته تحريضي كفاحي بناء يدعو إلى شحذ الهمم والنهوض من الكبوة, ويرسي اللبنة الأولى في مدماك(الشعر القومي الجديد), حينذاك, إن صح التعبير, ويؤسس له كسلاح ثقافي فعّال من جملة أسلحة المعركة مع عدو أمتنا العنصري الصهيوني إسرائيل. ومع الزمن شرعت هذه اللقاءات تتالى في مختلف المناسبات الأدبية والوظيفية في حمص أو دمشق, وبدأت تنمو بذرة علاقة محببة بيننا قائمة على الود الإنساني المشترك, والتعاطف الوجداني المتبادل في تلك المرحلة. زارني الشاعر ممدوح عدوان في مكتبي بالمركز الثقافي العربي خلال شتاء (1971) وبالتحديد في الثالث عشر من شهر تشرين الثاني لذاك العام واستكتبته في دفتري, فكتب هذه الخاطرة المعبرة عن رغبته في التحرر والانطلاق من أسر العلاقات الاجتماعية المتزمتة.. لا أستأذنه في نشرها لأنني أعرف سلفا أنه موافق على ذلك بدافع حب الاطلاع على ما كتبه لي من سطور لا شك أنّه نسي ما جاء فيها بعد انقضاء ثلاثة عقود على تدوينه لها: ربما كان خير ما أكتبه لك في هذا الدفتر, في نظري, هو نحن كإنسانين.. ويدفعني إلى ذلك تعبي, تعبي من الناس واللقاءات المرسومة أو المفتعلة بينهم.. وتعبي يعني حاجتي الى الراحة.. حاجتي إلى اللقاء بأناس لا يتعبونني باضطراري لدراسة ألفاظي وملابسي وضحكاتي وجلساتي معهم. وأنت مريح لي بهذا الخصوص.. مريح إذ أحس أنني أستطيع أن أفتح بابك, وقبل أن أقول لك مرحبا تضحك وتقول بين ضحكاتك ( يلعن عرضك) فأرد عليك (يلعن طولك) ونتعانق. وفي كل مرة آتي فيها إلى حمص أحس برغبة أن ألتقي بك ( وكم أتمنى لو كنت مدخّنا وسكّيرا مثلي) حيث يكون المجيء الى حمص خروجا من دمشق أي أنه رحيل عن العلاقات المعقدة المتشابكة, المنفوخة.. أنت يا ممدوح, وبصدفة أو أكثر, تحولت إلى محطة لمتعبين آخرين شكوا لك عزلتهم ونفيهم, فلتكن لي محطة لضحكة صافية نضحكها دون أن ندرس مدلولاتها كثيرا. شخصية ممدوح عدوان شخصية اجتماعية محببة متفاعلة مع المحيط, مرحة, ساخرة, جذابة صريحة, ذات حضور, وقصيدته قصيدة مبنية بحذق ومهارة, لا تعرف التشتت ولا الانسياح, قصيدة (موضوع) مخدوم, بحرفية وصنعة معلم, وبلغة تقترب من الجمهور فينسجم معها ويندمج بها إذا سمعها أو قرأها لأنها لا تشتغل بلعب الحداثة المستوردة وألغازها المستعصية, وغربتها عن شعريتنا العربية وغرابتها في لغاتها المبهمة, ولأنها مكتوبة للناس وعنهم ومن أجلهم وفي سبيلهم, ومن هذه النقطة كانت تستمد مقامها الذاتي والقومي المعبر, في مرحلة ما, عن جيل شعري منتم, صعقته هزيمة حزيران, لكنها لم تجعل منه رمادا تذروه الرياح, بل أعادت خلقه على شكل نسر ينفض عن جناحيه غبار الإحباط والخذلان. |
|