تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أدب المحتالين.. هـل انقرضـت الظاهــرة..؟!

ثقافة
الثلاثاء 2-6-2009
ديب علي حسن

إذا أردت معرفة أي مجتمع فعليك بقراءة أدبه شعراً ورواية، وتتبع ألوان إبداعه فمن الإبداع ستصل خطوط وملامح عريضة تقودك في دراستك لظواهر اجتماعية ربما لا تبدو ملامحها واضحة تمام الوضوح،

هكذا يرى بعض علماء الاجتماع، ويرى د. حليم بركات عالم الاجتماع والروائي أن الرواية تدلل على المجتمع وفي حوار معه نشرناه هنا في الثورة قال: إذا أردت دراسة مجتمع ما فإنني أقرأ فيما أقرأ أدبه الروائي..‏

هذا المدخل أردته للحديث عن ظواهر اجتماعية خلدها الأدب الذي نسميه أحياناً (هامشي) أدب الطبقات الدنيا التي تسعى وراء رزقها بأساليب وأشكال وألوان فيها مافيها من الطرافة وبغض النظر عن موقفنا من هذه الأساليب، وهنا نشير إلي توقف النقاد والدارسين عند ظاهرة العيارين والشطار في الأدب العربي، وغيرهما من الظواهر اللافتة.‏

أدب المحتالين..‏

وفي هذا المجال أقف عند موسوعة هامة وطريفة صدرت عن دار التكوين في دمشق وحملت عنوان: «أدب المحتالين» وهي من تأليف: د. عبد الهادي حرب، الموسوعة تحسب في طرافتها ودقتها لمؤلفها وللدار الناشرة التي عودتنا على تقديم عناوين هامة ومثيرة، ومن الطرافة والإعجاب والتقدير لمؤلفها ،بالتأكيد لا أعرفه إلا من خلال الاسم- أقف عند مقدمة الموسوعة وهي- المقدمة- طريفة في مبناها ومعناها، وتقبس من السيرة الذاتية ومضات إنسانية رائعة عاشها المؤلف وكابدها، وإذا كان المجال لا يتسع لعرض الكثير من هذه الوقائع والطرائف فإنه أيضاً لا يضيق عن بعض الاقتباسات يقول المؤلف : إنه عاش حياة (الكدية) وطاف القرى واعظاً مثل رجال الدين وكان صغيراً، لبس العمامة البيضاء دفعته لذلك الحاجة لإعالة الأسرة: ( ومنها أني كنت صغير السن أرتدي البياض، فكان الناس يقبلون علي وهم يرون في شكلي ملكاً أبيض قد هبط من السماء، والعهد بأمثالي أنهم يلعبون في الشوارع، ومنها إجادتي لفن الحديث والمحاورة) وقد درس المؤلف أساليب هؤلاء الذين يسميهم الكدية: (درست هذه الطائفة عن كثب فقد عرفت مشايخ التهليل الذين يحيون ذكرى الميت فيتلون ما تيسر، ويأكلون ما حضر، ثم يخرجون ليتقيؤوا ما أكلوا استعداداً لطعام جديد يصيبونه في منزل آخر، وعرفت المكدين بالأسرة والأطفال الذين يستدرون العطف والذين يجمعون من المستمعين ما تجود به نفوسهم ليوزعوه على الأسر المستورة كما يدّعون، والذين يتقدمون إلى المتاجر وبين أيديهم إيصالات تبرع لبناء مسجد مزعوم، والذين يعلنون عن فقرهم وهم على المنبر ويرجون الناس أن يشتروا منهم بعض الكتب التي أحضروها ولقد حفظت من نوادرهم الكثير، فمنهم من كان يترنم في عظته بهذا الشعر وهو يكاد يختنق بالبكاء:‏

- عمامتي لعبت أيدي الزمان بها- كأنها نسجت من عهد حواء.‏

- إن شئت أبدلها فالفقر يمنعني- أوشئت أغسلها تجري مع الماء .ومنهم من كان يحث الناس على شراء كتبه الدينية رغبة في أن يقرأها أولادهم الذين شغلتهم قراءة المجلات، أو رغبة في أن يورثوا من بعدهم علماً ينتفع به وهو لم يكن يقصد إلا المال.‏

وبعد انتظام المؤلف في الدراسة بالأزهر الشريف توهجت هذه الذكريات فعبر عنها شعراً أو نثراً ،حتى إنه كما قال في عام 1965م نشرت له مجلة (الشعر) قصيدة تحت عنوان (متسولة وشاعر)، ذهب فيها إلى أن الشاعر سطا على مال المتسولة وعوضها به قصيدة، ومما قاله في القصيدة:‏

- كانت تخاطبني وفي يدها- قرش تنقله إلى اليسرى‏

- وتريد مثل القرش من شبح- مثلي يراه الفتنة الكبرى‏

- ما كان في جيبي سوى نغم- قد خاصم المذياع والمنشرا‏

- فسلبت مامعها براجفة- ونقدتها الأشعار بالأخرى‏

- ومضيت أهزع للمنى جذلاً- أبغي العشاء وقلت: يا بشرى‏

- ومضت تولول وهي لاعنة- كل الفنون، وخصت الشعر.- بين يدي الموسوعة..‏

وإذا ما تركنا المقدمة الطريفة والرائعة وانتقلنا إلى الموسوعة فإننا أمام عمل هام وجدير بالقراءة والاهتمام، وتقع الموسوعة في (851) وتتوزع على أربعة أبواب، كل باب ينقسم إلى مجموعة فصول، ومن العناوين نذكر:‏

الكدية في اللغة والمصطلح- ظاهرة انتشار الكدية- بواكير القصيدة الساسانية- الكدية في المقامات- الضد في مقامات البديع- مقامات اليازجي- المقامات في دور الاحتضار- الكدية في الأدب الشعبي- فلسفة المحتالين السفسطية وحياتهم الكدية.‏

- وماذا بعد..؟!‏

ترى هل انتهى هذا اللون من الأدب في القرن العشرين والحادي والعشرين.. من يسجل في عطائه الإبداعي مثل هذه الوقائع إن عاشها.. أم أن الكثيرين احترفوا الاحتيال.. احتيال مهنة الأدب، ادعوا أنهم شعراء و.هم بالكاد يفكون الحرف.. على كل حال قراءة الكتاب وإن كانت متعبة لكنها متعة، وهو عمل يحسب للمؤلف والناشر.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية