تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مسارات ( التزام أم إلزام )

ملحق ثقافي
2/6/2009م
د. رياض عصمت

يعني التنظيم، بمعنى آخر، الالتزام. ولكن، فلنذكر أن ثمة خطاً مرهفاً يفصل بين الالتزام والإلزام، أي بين الاختيار الحر المسؤول، وبين الانضواء الذي يلغي التفكير الفردي المتميز.

ولعل أبرز مثال على الفارق بينهما يتجلى عند الأديب الفرنسي ألبير كامو، الذي عبر عنه خاصةًً في مسرحيته “العادلون”، متسائلاً عن مدى الثمن الذي يتوجب على مناضل يساري أن يدفعه في سبيل التزامه، وما الموقف الذي يمليه ضميره عليه عندما يتعارض الفعل المطلوب منه كعضو في حزب معين مع قيمه الإنسانية. كثير من أشكال التنظيم السياسي، سواء كانت دينية أم يسارية، تجد سبيلها إلى قلوب الشباب عن طريق الرياضة أو الثقافة، أي تتسلل إليهم بأساليب غير مباشرة، ثم تزين لهم فكرها النظري، وتطلب منهم الالتزام، ومن ثم تحاسبهم في إلزام صارم. لا شك أن عملية التنظيم السياسي تناقصت في المجتمعات التي تحولت من الأنظمة الشمولية إلى أنظمة ديمقراطية، خاصة في أوربا الشرقية. ونلاحظ أن النظام الناضج لم يسمح بتحول تلك المجتمعات من التنظيم الصارم إلى الفوضى، بل اتخذ شكل “الثورة داخل الثورة”. ولكن علينا أن نتوجس الحذر عندما يتعلق الأمر بمجتمعات أقل تقدماً ونضجاً، لأن تراث الديمقراطية فيها غير متأصل بصورة كافية لضمان وحدتها وتماسكها وأمنها الوطني. لذلك، فإن فكرة “هدم المؤسسات” الذي بشر به مؤلفون ثوريون، في طليعتهم جون أوزبورن، رداً على فكر سياسي استعماري هرم عقب أزمة السويس والعدوان الثلاثي على مصر، لا تنطبق على أوضاع مجتمعات نامية أخرى، لأن هدم المؤسسات يعني في أحوال عديدة الوقوع في الفوضى، وتعريض الأوطان إلى الأخطار.‏

من جهة ثانية، سنجد مثالاً على فارق النظام عن التنظيم خلال محاكمات حقبة المكارثية المظلمة في الولايات المتحدة الأميركية، حين شكلت لجنة أشبه بمحاكم التفتيش الإسبانية سيئة السمعة، وذلك للتحقيق في النشاطات الشيوعية المعادية لأميركا. استدعي للمثول أمام تلك اللجنة المكارثية – نسبة إلى مكارثي – عدد كبير من الأدباء والفنانين، نذكر منهم على سبيل المثال، لا الحصر: برتولد برشت، آرثر ميلر، تشارلي تشابلن، وإيليا كازان. وكان قصد التحقيقات التعسفية إجبار المتهمين على الإفصاح عن معلومات تطال أي منتسبين إلى التجمعات اليسارية، وبالتالي تجريدهم من حقوقهم المدنية والاجتماعية. لكن اللافت للنظر أن بعض أشهر من تحدى اللجنة المكارثية مبدعون انتموا بمواقفهم الأدبية والفنية إلى اليسار، وعبروا عن الحاجة إلى نظام عادل بأفكارهم الثورية، إنما خارج أي تنظيم أو انضواء حزبي، وأيضاً بعيداً عن الدعوة للفوضى.‏

في فيلم تشارلي تشابلن الشهير “الأزمنة الحديثة” مشهد رائع لا ينسى، يتلخص في أنه يلتقط بالصدفة من شاحنة عابرة راية حمراء تسقط منها للتحذير من أخطار الحفر والبناء، ويحاول اللحاق بها، فإذا بمظاهرة شيوعية تظهر وراءه، ليصبح هو قائدها دون علم. مؤخراً، طالعتني عبر البريد الإلكتروني إحدى طرائف الكاميرا الخفية، وهي عبارة عن استعادة مشابهة للمشهد المذكور من فيلم تشابلن، حيث يُعهد شخص لعابر أو عابرة سبيل بعلم أحمر يستخدم للتحذير من أخطار الطرق، ويطلب منه أن يعبر به درباً ضيقاً. وما أن يفعل، حتى ينضم إليه من الخلف حشد كبير من المناضلين الذين يرفعون رايات ولافتات وشعارات ثورية. وينتبه الشخص إلى أن ثلة من شرطة مكافحة الشغب، مسلحة بالدروع والعصي وسواها، تسد نهاية الدرب وتتجه نحوه منذرة بمواجهة عنيفة. وعندما يلتفت شارب المقلب إلى الوراء، يجد نفسه قائداً لمظاهرة ضخمة ترفع شعارات لا شأن له بها من قريب أو بعيد. وهنا، تلتقط الكاميرا الخفية ردود أفعال متباينة، وطريفة بصورة مضحكة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية