تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


دكتوراه في النميمة

ملحق ثقافي:
2/6/2009
قصة: علي ديبة

ارتشف إسماعيل من كأسه شاياً، ترك بصره ينزاح خلف قطعان من غيوم الصيف، هز رأسه أسفاً، مرة أخرى قبض على جدران كأسه، رفعه هكذا ..

كأنه يشرب واحداً من أنخاب الشراب، ابتلع رشفة أكبر من سابقتها، فاكتوى حلقه بسخونة أدمعت عينيه. مسح الدمع المترقرق بباطن كفه، ضحك قليلاً ولعله سعى إلى سخرية تنال من نمّام توسّط ذلك المجلس، خاطبه مستنكراً:‏

- ولوه .. ذكرتني بالزير سالم، من أين لسواه كل هذه المقدرة؟ كيف حقق كل هذه الانتصارات على ساحة العشق وميادينه؟ حمود لا يملك سبباً واحداً يستهوي نصف امرأة، لا أدري لماذا لصقت به أجمل حسناوات المدينة؟ نعمة بيضاء رشيقة تنافس بسحرها بدر الصيف، ميرفت طويلة ممشوقة القد، تسكر الكروم من دلال هي فيه، وشيماء؟! لا أدري ماذا أقول عنها، تمشي وتقول: «اشتدي يا أرض ما حدا قدي» كيف خضعن جميعهن لرغبات ربع رجل مثل حمود؟ وأين هو من تلك الصفات التي تعشقها المرأة، وزنه أقل من خمسين كيلو، بشرته داكنة لا لون فيها، فمه عريض يشغل نصف مساحة وجهه..أبعد هذا تتهم الرجل كل هذه التهم؟ ليته كان حاضراً ، ربما تعلمت منه بعض هذا الفن.. بدل غيرة تسكن صدرك..‏

حمل راية الدفاع رجل في عقده الرابع، أخذ على عاتقه مهمة الكر والفر، راهن على لسانه قائلاً:‏

- يا سيدي حمود أفعى تحت تبن، لا تعرف متى ولا كيف يقتنص فريسته، هو ذكي وصياد ماهر، لكن السطو على أعراض الناس ليس رجولة ..كأني بك تدافع عن شيطان لا تعرفه, كل الصفات التي ذكرتها لا تدل عليه، حمود الذي أعرفه مربوع القامة، أشقر قليلاً، وجهه أكثر من فاتح اللون، نزق ووقح مع الرجال، رقيق شفاف، طري اللسان مع النساء، يعرف متى ينصب شركاً لا تفلت منه طريدته. لا أدري ماذا أقول في وصف هذا الحمود. «سيدي .. الله يستر عاللي بيستر..»‏

خالفهما الرأي واحد من الحاضرين، أفرغ رئتيه من الدخان، أكد لهما بما لا يقبل الجدل ويقطع الشك باليقين أن حمود الذي يعرفه ليس مربوع القامة ولا قصيراً، بل هو محني الظهر لطول قارب المترين, وهو قليل السمع بعض الشيء، مصاب بتأتأةٍ تحوِّل في مقاصد الأفعال ومعاني الأسماء ، فالخيط عنده حيط، وإذا أراد أن يقول لك اربطه، تراه يصرخ ملء فمه: البطْهُ. وفي أحوال تفرض عليه كلاماً عاجلاً قد يحتاج إلى ترجمان عربي عربي محلّف ..‏

اقتلع إسماعيل جسده، أحدث كرسيه صوتاً مشبوهاً، مضى غير عابئ بقهقهات راحت تطارده، انزوى وراء منضدة تجانب وسط المقهى، خاطب نفسه ممتعضاً: أجارني الله من ألسنتهم، لا بد أنهم الآن يلعقون طرف مؤخرتي هازئين وساخرين . فتح جريدة يتأبطها كعادته، كاد يخرج عن طوره من ضحكات وقحة ملأت فضاء المكان، ازدرد ما في حلقه من بقايا اللعاب ، أصاخ السمع إلى مفردات راحت تفرض نفسها على أذنه متهمة الرجل ذاته:‏

- أنا لا أفتري على حمود ولا على غيره من البشر، ولن أقول سوى الحق, مرة أراه يرتدي زياً وطنياً في المحافل التي تقتضي وجوداً شعبياً، ومرة يقصد مقرات الشيوعيين، يلحق بهم إلى أماكن اجتماعهم، هناك تجد المصطلحات الطنانة الرنانة طريقها إلى لسانه، يبوح بما لم يبح به إنجلز ولا قريبه ماركس، يبكي إن اضطر للبكاء، ألماً وحزناً وحسرة على ظلم يحمله العمال والفلاحون والفقراء صليباً على أكتافهم، لا يترك ستراً على القوميين، يطعنهم في صميم بصيرتهم، يتهمهم بالشوفونية ووهم الهوية، حتى إذا كان اليوم التالي تصدر محافلهم، وأطلق للسانه اللجام والعنان، لا يبقي على الأممية والأمميين، ولا على البلاشفة وزعيمهم إيليتش لينين، يعيد الكرة ذاتها أمام رجال الدين، يبدؤها لعنة يصبها على رأس فلان، لا يسلم من شره عدنان ولا قحطان، هذا لا يقيم الصلاة، وذاك يشرب الخمر، ولعين آخر ماله حرام، يتاجر بالربا..‏

بدا الرجل كأنه أفرغ ما في جعبته، أو هو قرأ في العيون الشاخصة سأماً ومللاً ، فانكفأ يلحس طرف ذلك النبريج الثخين بلسانه، ويقول: يلعن طول اللسان “ الله يستر عاللي بيستر..”‏

من جديد سعى إسماعيل إلى إحراج ينتزع القناع عن وجه هذا النمام, اقترب من رجال تلك الطاولة، حاصر المستغيب بعبارة ليست بحسبانه، سأله متهكماً:‏

- وماذا يفعل حمود أمام حشد خليط فيه ما هب ودب من هؤلاء وأولئك؟ كيف يؤلب بعضهم على بعضهم..؟ ولوه..عريته حتى من ورقة التوت, وتدعي أنك لن تقول سوى الحق، ليتك تخبرني بعد هذا كيف أفلت من قبضات رجال الأمن؟ لماذا تبقيه الحكومة طليقاً يعيث ضرراً بالناس؟ خاصة هذه القضايا السياسية الشائكة, تكاد تكون كافية لتغييبه سنوات خلف القضبان. بعد هذا بالله عليك، قل لي : ماذا تركت لله كي يستره.. ؟‏

أمال الآخر عنقه، لواه مفسحاً الدرب أمام قدر أكبر من سحاب نرجيلته، أغمض عينيه حائراً، قال والدخان ما زال يلهث خلف كلماته المتقطعة : اسأله، لماذا تتردد سيرته دائماً على كل شفة ولسان؟‏

رمى إسماعيل ساقيه في طول الشارع، مضى قاصداً المركز الثقافي، عله يحظى بأمسية رومانسية تنأى به عن كل هذا الوجع. فرح لسكون هادئ يشغل جنبات الصالة، إلا من همسات ناعمة تكاد الأذن لا تسمعها، أضواء خافتة تشي بشاعرية المشهد، والمنبر ينتظر بداية تحلق به إلى سماء من زرقة النقاء الروحي. اعتلى المنصة شاعر أشيب، أخفى وجهه خلف مساحات من الورق، وراح يقرأ: أنا جديٌ في صحراء النبالة، أنا لو تدرون من أنا، أنا من عضّ النجوم في وقت الظهيرة، وأكل أوراق التراث على حين غرّة، فكانت هذه الثورة الدامية للحصى الأخضر..ساعة مضت تخللها صمت رهيب، إلا من مفردات ظلت تدق الأبواب والنوافذ والمقاعد الباردة، والأرواح المتكاسلة تسبح باحثة عن ملاذ تحتمي به من أشواك افترشت سريرها.‏

تصفيق حاد باغت ذاكرة إسماعيل، استيقظ من شروده، ، نهض كأن به مس. وقف مدير المركز بمواجهة الجمهور، شكر الشاعر على إبداعات صقلت أدوات الشعر، كذلك فعل رهط من أدباء الصالة ومثقفيها، أبدوا ارتياحاً وأجمعوا جميعاً دون استثناء, قالوا: إن شاعرهم الصميدعي ظاهرة فريدة كسرت مألوف الشعر، وأضافت إلى حرمه أبعاداً لم يعرفها الفراهيدي. بعد حوار ونقاش وإفاضات، وبعد تشخيص وتفحيص وتمحيص، تدفق الجمهور خارجاً، تلاشى سكون الصمت، امتلأ فضاء البهو الخارجي بلغط يشبه اللغط في حمام شعبي قطعت عنه المياه. زمر توزعت فوق ذلك البلاط الصقيل، راح جواد إسماعيل يخبُّ بينها دهشاً وحائراً، أجمعت الزمرة الأولى على اتهام الشاعر بضعف لا تحتمله لغتنا العربية، وخطيب الجماعة الثانية أدان الشاعر على موضوع لا يحتمل كل هذا الصراخ، وبقية الزمر الصغيرة والصغيرة جداً تناولت ثقافة ذلك الشاعر وفهمه لأغراض الشعر، مزقوا ثياب الشاعر، نتفوا لحيته وشعر رأسه ، لم يبقوا على جسده ستراً، وكان بعضهم يهمهم أو يتمتم : «سيدي، الله يستر عاللي بيستر ..»‏

بعد العشاء بقليل، جلس إسماعيل خلف منضدته، كتب في أعلى ورقة ناصعة البياض : رسالة إسماعيل الحطاب لنيل شهادة الدكتوراة . العنوان : فعل النميمة في النفوس المريضة . حار بالأسباب وارتهب أمام النتائج، مزق الورقة ، جمعها بقبضته، رمى بها إلى سلة المهملات وهو يقول بصوت أكثر من مرتفع: «الله يستر عاللي بيستر»‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية