تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


كل خميس .. متعة الشرود وحرمة الأمكنة..

ثقافـــــــة
الخميس 16-8-2012
حكيم مرزوقي

اصطحبني والدي صبيحة يوم العيد لأداء الصلاة في جامع عقبة بن نافع بالقيروان, مررنا بأزقّة وحارات لم أكن أعرفها من قبل، سمعنا تجّاراً، يتبادلون تحيّة الصباح والسعال بلهجة قيروانيّة...

ولم أكن أعرفهم.... لكنّي عرفت جيّدا صوت المرتّل القيرواني الشيخ علي البرّاق، من خلال المكبّرات والإذاعة وإطلالته البهيجة على شاشة التلفزيون.‏

سمعنا المنادي ينعي وفاة أحد الأعيان في (باب الجنائز), همهم أبي بالترحّم عليه فسألته: (هل تعرفه..!؟.).‏

- هل تحتاج المعرفة للترحّم... ما أسعد الذي يموت في يوم كهذا... هيّا أسرع كي لايسبقنا عمّك عبد الله للجلوس في الصفّ الأوّل.‏

- أبي هل تفكّر في الموت صبيحة يوم عيد مثلاً ؟‏

- ما أتعس فألك، لايختار وفاتهم إلاّ المنتحرون - والعياذ بالله -... هيّا أسرع، ولا تكثر من أكل هذه الحلوى كي لاينقضّ وضوءك وأنت على أهبة الصلاة.‏

دخلنا الجامع الكبير واقترحت على أبي أن نصطفّ في الصفوف الأخيرة كي أكون على مسافة قريبة من حذائي الجديد... والذي حذّرتني أمّي في البيت من الانتباه إليه جيّدا كي لايسرقه أحد المنافقين.‏

تذكّرت سورة (المنافقون) التي تعلّمتها في الكتّاب ونظرت إلى العم عبد الله وهو ينظر إلينا في شماتة وكأنّه قد سبقنا إلى الجنّة.‏

همس لي أبي في حنق: الله يسامحك... هل كان من الأجدر الجلوس في هذه الزاوية البعيدة أمام إمام لا يكاد يوصل صوته إلى مسمع عمّك عبد الله..!؟.‏

نودي للصلاة فقال الإمام: (استووا واصطفّوا يرحمكم الله), نظر والدي إلى يمينه فلمح جارنا رمضان الذي يبغضه بغضا شديداً, قلت لنفسي: كيف سيسلّم أبي على جارنا رمضان وقد بخسه الأخير مبلغا لا بأس به من سعر الدكان..!؟.‏

رفعت رأسي إلى الأعلى ونظرت إلى الثريا والمروحة الضخمة التي تعلو السقف، ثمّ سألت نفسي بمكر طفوليّ: ترى, ماذا لو سقط هذان الجسمان الهائلان من المعدن والزجاج على المصلّين قبل الشهادة والتسليم والدعاء... هل سينجو أحد..!؟..الحمد لله الذي هدانا إلى هذا العامود.. وتحت هذا السقف العالي الذي كتبت عليه آية صريحة - وبخطّ قيرواني أنيق-: (قل لن يصيبكم إلاّ ما كتب الله لكم).. تذكّرت آية أخرى تقول: (لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم).‏

نظرت إلى ظلّي العملاق وهو يتّجه عكس القبلة بفعل انعكاس الضوء, حاولت أن أعدّل من جلستي، لكنّ أبي نهرني بهمزة من كوعه.‏

لاأنكر أنّي قد شردت قليلا بين الركوع والسجود، لكنّي استمتعت بقوله: (إنّ الله يأمركم بالعدل والإحسان، وينهاكم عن الفحشاء والمنكر، ويعظكم لعلّكم تتّقون،)... وأنا أنظر إلى جارنا رمضان وهو يؤدّي الفريضة على يمين أبي في خشوع تام.‏

حين لفظ الذي كان يؤمّ الصلاة ما تيسّر من سورة (المنافقون)استرقت النظر إلى الخارج وتفقّدت حذائي الجديد عملاً بنصيحة أمّي... ثمّ ألقيت ببصري نحو العم عبد الله وهو في الصفوف الأولى من المصلّين، يرفع رأسه خاشعاً وموافقاً على كل كلمة يقولها إمام الجامع.... أمّا أبي فكان يرقبه بشيء من الامتعاض.‏

عدت أنا وأبي إلى أمي في مقرّ إقامتنا المؤقتة في مدينة القيروان، همس لي في الطريق: هل تعلم أنّ زيارة القيروان بمثابة ربع حجّة؟.‏

-إذاً، علينا أن نزورها ثلاث مرّات أخرى.‏

- لا, ليس هذا تماماً، ولكن.. هيّا أسرع, الآن تكون أمّك قد انتهت من شوي اللحم وإعداد الطعام.‏

-أبي لاأستطيع الإسراع أكثر من هذا... حذائي ضيّق ويؤلمني بعض الشيء.‏

- الحق عليك...جعلتنا نجلس آخر الصفوف، كنت تراقبه طوال الوقت دون تركيز في الخطبة... ولو سرقه أحد المنافقين - على قول أمّك - لاشتريت لك حذاء جديداً.‏

- لا بأس يا أبي... لدينا ثلاث مرّات أخرى قادمة.‏

الآن وأنا في سنّ أبي آنذاك, كلّما أمرّ من أمام جامع القيروان المعمور, أتحسّس وقع خيول عقبة بن نافع المسافرة في اتجاه المحيط... وأستمع إلى قطرات الماء وهي تسبّح لخالقها في الحمّام الشعبي الذي كتب من وحيه صاحب (طفل الرمال) رائعته... إنّه الطاهر بن جلّون، المغربي الذي أعاد للعربية اعتبارها باللغة الفرنسية ولامس مياه المحيط قائلا على لسان عقبة بن نافع: (اللهمّ اشهد أنّي قد بلّغت... اللهم اشهد أنّي قد بلّغت).‏

hakemmarzoky@yahoo.fr

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية