|
ثقافة الشاعر يتناسى «تذكر الوعي» ويسعى لأن يعثر عليه في كل مانسيه الفيلسوف أقتطع هذا المقطع من كتاب الاسبانية ماريا ثامبرانو (الفلسفة والشعر) لعلها تكون مدخلاً مقولاً عن الشاعر الفرنسي رينيه شار. الأوساط الفرنسية احتفلت مؤخراً بذكرى مئويته خلالها صدر عدة كتب تناولت حياته ونتاجاته الشعرية فصدر كتاب عن دار خوليو حيث مختارات من نصوصه وعن دار غاليمار صدرت مراسلاته مع الأديب الوجودي والحائز نوبل ألبير كامو، وقد سمي الكتاب (لقاء السحاب) إشارة إلى اثنين من كبار الفكر والأدب الفرنسي وهذا يذكرنا بتعاون أم كلثوم مع محمد عبد الوهاب يومها أطلق المتابعون على ذلك اللقاء: لقاء السحاب. رينيه شار من الطبيعي أن يلتقي مع ألبير كامو كلا الاثنين كانا يتميزان بالوضوح الجارف كامو الوجودي الذي غلب كل الوجوديين بصدقه وبمواقفه الواضحة عن كل شيء حتى لولم تعجب أحداً كذلك رينيه شار كان واضحاً إلى حد الشراسة وهو الذي حكى ذات مرة في إحدى شذراته: (الوضوح هو الجرح الأقرب إلى الشمس). رينيه شار كان شاعراً يعيش في بلدة عادية في الجنوب الفرنسي إلى أن حدث وقابله يوماً بول إيلوار ونصحه بالذهاب إلى باريس التي كانت تضج بحركة السورياليين وهناك التقى أراغون وأندريه بريتون وانضم إلى المجموعة المتمردة واستفاد بريتون من ضخامة جسد شار وقوته البدنية واستثمرها لدى قيامهم بهجماتهم المفاجئة على المقاهي التي يرتادها البرجوازيون حيث اعتاد السورياليون عبر الهجوم عليها وتكسير الصحون والكراسي والصراخ في وجه البرجوازيين بقولهم: (أيها العفنون) والبرجوازيون بدورهم يقولون لهم: (زعران ومجانين) وذات مرة هاجموا حفلة كانت تقيمها واحدة من الأميرات في أحد مقاهي حي مونبارناس وطلب يريتون من رينيه شار أن يتقدم المجموعة لأنه الأضخم والأقوى وانتهت الهجمة في مركز البوليس. السوريالية صقلته وفتحت عينيه على أشياء لم يكن ليراهامن دون جموح السورياليين وتمردهم لكنه عقب فترة هجرهم وهو يقول أكثر ماقيل منطقية بحق السوريالية كحركة: (السوريالية بحاجة إلى التلاشي برشاقة وكياسة من أجل حمايتها من الاذلال الذي سوف تتعرض له عند بلوغها المئة عام، لكن ألستم مؤمنين بالقضاء والقدر؟ هل كانت سلالة ساد ورامبو ولوتريامون بأسرها من فئة المفكرين أنا أرى هذه التسوية المثيرة للشفقة قادمة وكنت أرفض إقرارها والتصديق عليها سوف أغادر هذا السيرك) وبالفعل قال هذا الكلام في 1935 وفي عام 1940 انضم إلى المقاومة الفرنسية وخلافاً لكل المثقفين الذين انضموا إليها كتأييد وموقف إلا هو - وسانت اكزوبري- انضم إلى المقاومة كمقاتل ومناضل واشتهر بإقدامه وكفاءته في ساحة المعركة إلى حد أنه أصبح قائداً ميدانياً لجيش المقاومة تحت اسمه الحركي: الكسندر ومن أهم ميزاته الأخرى أنه كان كريماً إلى حد أنه باع ذات مرة أعمالاً لأصدقائه من الفنانين الكبار الذين جمعتهم معه صداقة مثل براك وبيكاسو ودالي وقام بتوزيع المبلغ الذي حصل عليه لإسعاد من حوله من أحباء وأصدقاء. وكان يصنف البشر إلى ثلاثة أصناف: الناس اللطيفون، الناس المزعجون، والعباقرة، وكان لايتوانى عن تسمية الأشياء باسمها مهما كان الثمن وقد اشتهر بصداقته للفيلسوف الألماني، مارتن هيدجر وكان يصفه دائماً بالعبقري ودافع عنه أشرس دفاع عندما حدث وهاجمه من حوله لكونه كان منتمياً للحزب النازي، برأي شار أن كون الإنسان موهوباً عبقرياً أمر يغفر له كل شيء. الشاعر سان جون بيرس قال عن شار (وحده دون معلم) وهذا يذكرنا بواحد من عناوين دواوين شار الشعرية( مطرقة بلا معلم) كان مخلصاً للشعر بشكل عميق وحقيقي: (الشاعر لاينبغي أن يشارك شيئاً، لازواج، ولاعائل،ة ولاأولاد، ولا أي شيء آخر) رغم ذلك كان له أكثر من زواج لكنه أصر على عدم الإنجاب. كان يخاف من نفسه أن يبلغ الجنون دون أن يحس (لايوجد شاعر كبير من دون هذيان ونحن نتغذى من هذا الهذيان في الوقت الذي نحاول السيطرة عليه) وإذا كان قد عرف عن السورياليين أنهم يقدسون الشاعر لوتريامون فإن شار كان يعشق رامبو وكان يؤرقه سؤال أساسي يتعلق برامبو (لماذا سكت؟) كان يقول إزاء كون رامبو توقف عن الكتابة قبل العشرين تقريباً. لعل من أكثر الأشياء التي تدل على جوهر شار اسمه المستعار الذي نشر تحته يومياته خلال المقاومة كان يعتمد اسم من(هبينوس) وهو اسم إله النوم عند الإغريق؟ كان يعشق بشغف وجنون ولعل: أشهر ماكتبه عن حياته العاطفية ديوانه: (في مديح مشتبه بها) ومن أعماله الشعرية: الكلمات على شكل أرخبيل الليلة الطلسمية، أجراس على القلب...) يمكن للقارىء أن يلمس خوفه الشديد من الفناء ويقينه النهائي بشأن الفناء طبعاً لاغرابة لكما يقول أحد الفلاسفة: الشعر يكثف اللحظة، لايقبل الأمل وتعزية العقل، الشعر هو صوت التشاؤم صوت الكآبة والحب الزائل، الحب الذي لانريد عزاء بفقدانه ولابفقدان أداتنا. |
|