|
لوموند في بعض الأحيان هم ضدنا, بينما في مرحلة ما بعد أحداث 11 أيلول كنا نحن في أغلب الأحيان ضدهم, ولا سيما منذ غزو العراق حيث اتسعت الهوة الفاصلة بين الأوروبيين والأميركيين حتى شملت ميدان القيم المعروفة منذ القديم بأنها مشتركة. وها هي هذه الرؤية السطحية تتعقد أكثر فأكثر إثر احتدام الجدل الدائر حول أديبات الوسائل المستخدمة في مكافحة الإرهاب منذ مطلع شهر تشرين الثاني, والذي كشف عن انشقاق بين الشطين أكثر دقة وعمقا. هل يمكننا التسامح والتساهل مع أساليب هي أقرب إلى التعذيب من أجل انتزاع معلومات من متهم بالارهاب ممكن أن تفيد في منع وقوع عمليات ارهابية يجري الاعداد لها? وهل يمكننا القبول بنقل وكالة الاستخبارات الأميركية السي. أي. إيه موقوفين مفترضين بالارهاب من بلد إلى بلد مستخدمة كل حيل انفتاح الحدود الجسدية والبصرية, وإعفائه من كافة المعايير القانونية القومية والدولية المعترف بها جميعا? وإلى أي مدى يمكننا التضييق على الحريات الفردية باسم الأمن? وفي هذا السياق لقد تطور واتسع جدا الانشقاق الذي انفجر منذ أحداث 11 أيلول, ويظهر القرار الأخير الصادر في منتصف الشهر المنصرم عن البيت الأبيض في عدم رفض التعديل الذي تقدم به السناتور الجمهوري جون ماكين القاضي بحظر استخدام المعاملة القاسية, وغيرالإنسانية والمهنية مع أسرى أجانب موقوفين لدى الأميركيين سواء أكانوا مدنيين أم عسكريين عن مدى الضغط الكبير الذي تلقاه هذه المسألة في بلاد العم سام, وتم تبني تعديل ماكين الشهر المنصرم لدى مجلس الشيوخ وقد صوت عليه 90 عضوا مقابل تسعة أصوات رغم الضغوط الكثيفة التي مارسها نائب الرئيس ديك تشيني, وقس على ذلك, أيضا حجم السخط الواسع مع انكشاف خيوط فضيحة أخرى في كانون الأؤل وهي السماح للبيت الأبيض بالتنصت غير المشروع على مكالمات أشخاص مشكوك بهم, وقدمت هي الأخرى مدى التقدم الذي أحرزه الرأي العام الأميركي في متلازمة الأمن- الحرية. وأدرك المسؤولون الأميركيون تدفعهم وسائل الإعلام التي أصبحت الآن أكثر هجومية حجم الأضرار التي خلفها الجدل حول قضية التعذيب على صورة الولايات المتحدة عبر العالم ولدى عودته من جولة شملت افريقيا دعي السناتور الديمقراطي ريتشارد دورين في الشهر المنصرم إلى مؤتمر سنوي يعقده المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في باريس, وصف فيه السيد دورين تكاليف هذا الجدل على الدبلوماسية العامة لبلده, ويقول ( أفضى لي سفير أميركي التقيته خلال جولتي أن المشكلة الأكبر التي يواجهها مع زعماء الدول الإسلامية ليست الإجابة على أسئلة حول غزو العراق بل إلى أسئلة حول استخدام التعذيب لقد ارتكبنا خطأ عندما تخلينا عن قيمنا ومبادئنا الأساسية. وتلك القضية بالنسبة للسناتور مشابهة لقضية معسكرات اعتقال اليابانيين الأميركيين خلال الحرب العالمية الثانية, وفي هذه المسألة يقترب الرأي العام الأميركي من الحساسية الأوروبية. إذ وبدعم من السلطات القضائية في بريطانيا وفي الولايات المتحدة سجلت المحكمة العليا وقانون اللوردات المختصين بحماية الحريات الفردية مواقف معارضة لموقف السلطات التنفيذية, وقد توجهت وزيرة الخارجية الاميركية كونداليزا رايس بنفس اللغة سواء إلى مواطنيها أم إلى مضيفيها الأوروبيين خلال جولتها الأوروبية الأخيرة, الجولة التي كانت مخصصة لتنقية أجواء الحوار عبر الأطلسي سيطر عليها قضية تعذيب أسرى الإرهاب, إلا أن السيدة رايس, وبحركة ذكية منها, طرحت بنود الجدل, قبل مغادرتها واشنطن. وأول حجة تمترست خلفها رايس هي أن (الحرب ضد الإرهاب ) (أسلوب جديد للصراع) والإرهابيون المأسورن في قرننا الحالي, ليسوا مدرجين في التصنيف الكلاسيكي للمحاكم الجزائية والعسكرية (المقامة من أجل الاستجابة لضروريات أخرى, وعلينا التكيف مع ذلك). الحجة الثانية تقول: إنه وبالرغم من حداثة القضية, إلا أن تكتيك نقل الأسرى مستخدمة منذ عشرات السنين, ومنها استخدم في ظل عهد الرئيس كلينتون, وكذلك من قبل فرنسا حين لجأت لنقل الإرهابي كارلوس من السودان. الحجة الثالثة: يركب الاميركيون والأوروبيون في نفس السفينة ولذلك (يتعين علينا, وقبل حدوث الاعتداء المقبل, التمعن جيداً في خياراتنا الصعبة, التي تواجهها الحكومات الديمقراطية). ولم يضعف هذا السجال الهجومي فقد بدت زعيمة الدبلوماسية الأميركية, عقب يومين, وفي كييف, على وشك الانهيار من الثقل, من خلال تأكيدها أن منع المعاملة السيئة, غير الإنسانية والمهينة يجري تطبيقها حتى خارج الولايات المتحدة, وفي المساء ذاته, في بروكسل, جرى استقبال حافل لها في مقر حلف الناتو حيث ثمنت الدعم الذي قدمه لها نظيرها الفرنسي فيليب دوست بلازي, الذي امتنع عن توجيه انتقادات مباشرة لواشنطن قائلاً (اسمحوا لي التذكير أن الولايات المتحدة هي صديقتنا وحليفنا) لأنه وإن كان يصعب على الزعماء الأوروبيين طلب كشف حساب من نظرائهم الأميركيين أمام الرأي العام لديهم, فإن البراغماتية تعلو حينما يلتقي زعماء أوروبيين وأمريكيين معاً. وقد أشار ستيفن هارلي, مستشار البيت الأبيض للأمن القومي أمام شاشات التلفزيون إلى أن (ثمة الكثير من التعاون على مختلف الصعد في مسألة الحرب على الإرهاب وثمة أمور لا يمكن قولها أمام العموم, ولكن يمكن أن تقال بشكل خصوصي فيما بين الحكومات, وإن واشنطن تعتبر باريس أحد حلفائها الأكثر ثقة في مكافحة الإرهاب, حتى في مرحلة الاضطرابات الدبلوماسية). وأدلى وزير الخارجية الاميركية الأسبق بدلوه في هذه القضية مؤكداً أن حلفاءنا الأوروبيين كانوا على علم بنقل أسرى وبرحلات جوية لجهاز السي.أي.إيه. وإن كان الزعماء الأوروبيون غير راضين عن الإفراط في استخدام التعذيب لانتزاع الاعترافات من الأسرى إلا أنهم فهموا أن البنود التي حددتها السيدة رايس للجدل غير منطقية. بل يجب أن يتعاون الاميركيون والأوروبيون في مسألة الاستخبارات. وفي هذه الحرب (من نوع جديد) تتسع الهوة بين المجتمعات المدنية والحكومات أكثر منها بين ضفتي الأطلسي. |
|