تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عاليا غراوي في «فسيفساء دمشقية».. نزهة اللون في ذاكرة الأمكنة والتراث

ثقافة
الخميس 5-1-2012
أديب مخزوم

في لوحاتها التي عرضتها في المركز الثقافي الروسي تحت عنوان (فسيفساء دمشقية) تستخدم التشكيلية الشابة عاليا غراوي تقنية الرسم الزيتي، في صياغة المشهد المعماري

والعناصرالتراثية المختلفة، القادمة من تداعيات ماترسخ في الذاكرة والوجدان من عناصر ومشاهدات، كل ذلك برؤية فنية واقعية، تتخللها بعض اللمسات اللونية العفوية، التي تمنح المشهد المرسوم نفحة تعبيرية حديثة، مستمدة من تأملات بعض الأعمال الفنية التشكيلية المنتمية إلى مايعرف بالواقعية الجديدة أو الحديثة.‏

أحجار متناوبة الألوان‏

كأنها تبتعد عن الواقع المأساوي الموجود في عالم اليوم, في العودة إلى ذاكرة طفولتها وفتوتها المشحونة بعناصرتراثية غابت أو تكاد تغيب عن خصوصيات البيت الدمشقي القديم، العابق بالإلفة والمحبة والترابط الأسروي، والمسكون بالورد الجوري والياسمين الناصع البياض في فسحاته الواسعة، المكشوفة على الفضاء في الداخل والخارج معا. وهي تبحث عن العناصر والأشياء المحلية التي عرفتها اسواق المهن اليدوية ودخلت في قلب الحياة اليومية الدمشقية (نحاسيات وزجاجيات وصدفيات وثريات...)،إضافة الى حضور الفونوغراف اليدوي والفانوس وسواهما من عناصر حميمية.‏

فهي تنتمي في احاسيسها الفنية كليا إلى ملامح وخصوصيات البيت الدمشقي، بعناصره الهندسية (الحارات والأزقة بقبابها وأقواسها و أحجارها المتناوبة الألوان وبشرفاتها ومشربياتها وورودها وزهورها وياسمينها الدائم العبق والأخضرار...) وبمحتوياته الشعبية، التي دخلت في يوميات الأسرة الشامية، مع التركيز لإظهارأجواء اللمسة العفوية للون الباحث، عن حركة أكثر انفعالية في معالجة العناصروالأشكال. فالشيء الهام بالنسبة لها يكمن في استعادتها لإشارات المشهد المعماري المحلي والأشكال التراثية، بالارتداد إلى الداخل، لتخرجها من حيز صمتها ولتجددها أو تستنطقها بالبوح الانفعالي المباشر، ولهذا تتدرج الحركة العفوية صعوداً وهبوطاً عبر تدرجات الحالة اللونية، من تلك التي تتجه نحو العفوية المتوترة من خلال اللمسات المتتابعة والمتوترة إلى المساحات الهادئة التي يغلب عليها التسطيح وتنسج علاقة مزدوجة بين العفوية اللونية والملامح الهندسية المعمارية، وبذلك فهي تحاول الحد من افقية الامتداد التصويري التسجيلي بالابتعاد عن التدقيق الذي يوحي بالمرجع الواقعي التقليدي.‏

لمسات تلقائية متتابعة‏

هكذا تظهر تنويعات الأشكال المعمارية والتراثية والشعبية في لوحات عاليا الغراوي، كعناصر متجاورة ومتتابعة تبحث عن تشكيلات هندسية، فيها قدر من العفوية البعيدة عن المنهج التزييني البصري الذي يتقيد بالتفاصيل وبصورية الشكل وواقعيته التسجيلية، حيث تعمل لإعادة صياغة المشهد بقالب تشكيلي عفوي، يزاوج ما بين إشارات الواقع (المستمد من انطباعات الذاكرة أو من الجلسة المباشرة) وتكاوين المنطلقات التعبيرية في أبجديتها التلقائية والعفوية. ففي هندستها المعمارية تقترب من حركة البناء التتابعي العفوي، الذي يحول المساحة اللونية إلى إطار ضروري، يحد من الرزانة التصويرية الدقيقة حتى لا تقع في الانضباط العقلاني البارد الذي تعمل منذ البداية على تجنبه.‏

وهذا يعني أنها في خطوة انطلاقتها الأولى، تبدو أكثر اتجاهاً نحو البحث عن إيقاعات وجدانية وعفوية، تنحو إلى هندسة لونية بارزة تعبر بتلقائية عن انفعالات وجدانية، تصل بالمشهد المعماري والعناصر التراثية إلى انفلاتات تلقائية، مفتوحة على جمالية عصرية لتنويعات الأقواس المتداخلة في عمارة مدينة دمشق القديمة (في تكاوين الأقواس والقباب والمربعات والمستطيلات والزوايا القائمة والخطوط الشاقولية والأفقية والتي تحدد أشكال الأحياء والأزقة والبيوت القديمة).‏

ولوحاتها على هذا الأساس تبتعد عن معطيات الصورة الفوتوغرافية، حيث تكثف القدرة التعبيرية في الزيتيات بتركيب طبقات اللون وبتسميكه، وبأسلوب يميل أحياناً إلى اختصار المظهر، والابتعاد عن الدقة التفصيلية الباردة، فما يهمها في النهاية هو البعد الثقافي للتجربة التشكيلية، فاللوحة التي تقدمها ليست مجرد صورة واقعية، وإنما هي رؤية فنية تستفيد من معطيات الفنون الواقعية الحديثة، وتعمل على تنمية الحساسية البصرية لدى الجمهور، بعيداً عن الاتجاهات التجارية في الفنون الاستهلاكية، وهذا يعني أن اللغة التصويرية المعمارية والتراثية في لوحاتها تكتسب حيويتها من حالات ارتكازها على وسائل تقنية وجمالية جديدة وحديثة لم تكن معروفة في الفنون التقليدية الكلاسيكية المفرطة في دقتها ورصانتها ومثاليتها‏

(facebook.com(adibmakhzoum‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية