|
|
ثقافة
حقاً...يستحقون الترحيب...بأدائهم أعادونا لأجواء مسرحٍ خلت أيامه...وطال انتظار إحيائه. غرقت أجسادهم بالتعبير، واخترقوا فضاء المكان بأصواتهم الآسرة للانتباه، بثقة عالية بالنفس و سردٍ رشيق يتوسل الشعرية. كانت لوحةً أقل ما يقال عنها...جملة تعبيرية نضرة بأبعاد كثيفة تتعالق برؤيتها السورية ومسردها الشكسبيري في صوغ محكيها المحمول على التقارب، باختلاف الزمان والمكان... تتماهى بعجائبيةٍ مقصودة مع تفاصيل واقعٍ تفوح منه رائحة الدماء. نعم...رأينا في عيونهم ذلك الحلم... رأيناهم يخترقون حاجزاً جمركياً شفافاً، ليدخلوا عالم الأحلام «الفالتة» من صرامة النظم المنطقية.... فيصلوا إلى النجوم دون أن ينسلخوا عن الوجدان الجمعي، ولا أن يقفوا على مسافةٍ من الحاضر والمستقبل الفني المسرحي بل في قلبه تماما... صانعوه الأثيرون... يحلمون بمستقبلٍ تتوسع فضاءاته شرقاً وغرباً، لتبلغ الحلة الأفلاطونية، بالإنسانية المحضة وامتزاج كل المتناقضات في منهجية إلهية، يقودها الحق ويعتلي فيها الأخير عرشاً قائماً على دعامات الصدق والرحمة....وكم يختلف ذلك العرش عن عرش «ماكبث»...الملك الاسكتلندي...أبرز شخصيات عرضهم المسرحي، الذي تدور أحداثه حول رؤية افتراضية لصيرورة حياة الملوك ضمن ثنائية مغلقة «من القتل إلى العرش ثم من القتل إلى العرش».....وهكذا «النهاية هنا...هي البداية هناك.... والزمن لا قيمة له...المهم أن التاريخ يعيد نفسه بأدوات قد تخرج عن المألوف حيناً وتنصاع لسلوكيات لا تنحرف عن ذاتها في معظم الأحيان...كلها أفكار يلتقطها النص بصياغة درامية إبداعية خاصة تتنطح بين البوح والإيحاء. «ستصبح ملكاً».. نبوءة أربع ساحرات أرهقت «ماكبث» في صحوته ومضجعه وسهاده...تضافرت مع وشوشات زوجة مشغوفة بالعرش...لتصنع منه قاتلاً يتقن صنعة الموت.... الملك «دكن» الرشيد كان أول من قُتل على سيف «ماكبث» الذي سرق عرشه، وراح يسفك الدماء هنا وهناك....وانتهى به الأمر مقتولاً على يد جيش ابن الملك....وهكذا تتكرر القصة مرة أخرى، لكن بتبديلٍ بسيط للأشخاص..... ليكون «عرش الدم» هو أفضل ما وصف به هذا العرش....عنوان أطلقه غسان مسعود على العرض، والعائد لفيلم ياباني «كوروسا».... كما عمل بذاته على الإشراف عليه... فحوّل العمل من مشروع تخرج لطلاب المعهد العالي للفنون المسرحية، وما فيه من إطالة لإظهار مقدرات الطلاب...إلى عملٍ جماهيري نخبوي يأخذنا بنسيجه الدرامي إلى أبعد ما كنا نتوقع. العرض كغيره من عروض «غسان مسعود»...يخلقُ لكل ممثل فيه فضاء واسعاً، يتحرك ضمنه بحريةٍ مطلقة، فيخرج من ذاته، وينسلخ من جملته الحياتية، ليلج هلام الشخصية، فيتوغل إلى عميقها الغامض ويهيج تفاصيلها الصغيرة، والتي تلقى طريقها المباشر للجمهور بسلاسة وخفة، دون تكلّف أو مغالاة... هذه الحرية والآفاق اللا منتهية التي يمنحها غسان مسعود، هي موّلد الحالة الإبداعية للعرض، بمشاركة التوظيف الدقيق للمواهب الفتية... بذلك تظهر الشخصيات مقنعةً كل منها على حِدة.... تتقاطع خطوطها ضمن إطار درامي استحوذ على الرمزية والإيماء التعبيري. العرض كثرت فيه النجوى...وتحفيز الذات أحياناً... وجلدها أحياناً أخرى، مع استمرار لإيقاعات موسيقية متنوعة، لم تكن حيادية ولا شكلية، بل لها اليد الطولى في إيصال ما يُراد أن يقال بتماهٍ واضح مع المشهد التمثيلي المحكي....إضافة لاستعراض المناجاة التي حركت وجداننا، وأصابتنا من الداخل كمناجاة «مكداف» لربه في لحظة إعلامه أنه فقد أولاده وزوجته: «ياالله شهدتَ على قتل أولادي وزوجتي ولم تتدخل».... لطالما سمعنا ما يشبهها على لسان أمهات من زمننا هذا...فالعرض أشبه بفرصة، للتعرف على عالم افتراضي شكسبيري بعيد المدى وبعيد الرؤية.. فيه قراءات تتوازى مع خطوط الواقع الراهن جميلةٌ هي الكوميديا التي تتوسط المسرحية..مرت كنسمة منعشة ترخي الأعصاب المشدودة للمتابعة...حركة ضرورية لكسر الجمود و الجدية وإثارة التفاعلية مع الجمهور بل هي أشبه «باستراحة المحارب» ضمن أجواء العرض الذي تكثر فيه المكائد والأحزان.... «عرش الدم » مسرحية أكدت بكل تفاصيلها وأبعادها........أن «المسرح لا يهرم ولا يموت « كما وصفه الدكتور «رياض عصمت آغا» |
|
