تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أبو تمام في الميزان.. الشعر أصدق أنباء من النقد

كتب
الأربعاء 29-2-2012
فادية مصارع

إذا كان المتنبي قد ملأ الدنيا وشغل الناس، فلم يكن نظيره ونده أبو تمام بأقل منه، وهو الذي ملأ شعره الآفاق، إذ كان صاحب مذهب في الشعر تمخضت عنه العبقرية العربية فولدت في مطلع القرن التاسع عشر وبولادته ولدت قمة- من قمم الأدب،

كما أنه شغل النقاد وتشهد بذلك الكثير من الدراسات النقدية التي كتبت عنه قديماً وحديثاً وأجمع الكل على شاعريته وتميزه، وكان أوحد عصره في ديباجة لفظه ونصاعة تعبيره، وحسن أسلوبه، وقد قال عنه الشريف الرضي: إنه «رب معان، وصقيل ألباب وأذهان، وقد شهد له بكل معنى مبتكر، لم يمش فيه على أثر فهو مدافع عن مقام الإغراب الذي يبرز فيه على الأضراب، فمن حفظ شعر الرجل، وكشف عن غامضه، وراض فكره برائضه أطاعته أعنة الكلام.‏

د. ميادة كامل إسبر واحدة من الكثيرين الذين كتبوا أبحاثاً ودراسات عن أبي تمام، وجاء بحثها كما تشير هي نفسها استجابة لتساؤلات عدة بعضها يتصل بالنظريات النقدية، والبعض الآخر بالموقف النقدي العربي تجاه مسائل اللفظ والمعنى وقضايا البديع، فقد كانت غاية البحث المعنون بـ «شعرية أبي تمام» تتبع مسارات نظرية الشعرية الحديثة، وعوامل نشأتها للإفادة من مقولاتها ومبادئها في كشف عناصر شعرية الطائي، التي كانت مثار جدل أنتج حركة نقدية مهمة لا يمكن لباحث أن يتجاهلها أياً كانت أهدافه ومراميه.‏

ويأتي اختيار اسبر لدراسة شعرية أبي تمام تحديداً استجابة لنوعين من التساؤلات الأول يتعلق بقدرة النظرية الشعرية الحديثة على مقاربة ما انتهى إلينا من نصوص التراث العربي ومدى استجابة هذه النصوص لمفاهيمها وأدواتها، والثاني يتعلق بنظرة النقد القديم إلى البديع بوصفه زخرفاً لفظياً زائداً على المعنى، إذ كان الموقف النقدي من مسألة البديع والمعنى ثابتاً، واستخدمت الباحثة للكشف عن ذلك كله المنهج البنيوي لأن النظرية الشعرية الحديثة كانت وليدة البنيوية الأدبية التي انتقل الباحث فيها من البحث في الماهيات إلى البحث في الطرائق والكيفيات، وقد غدا ذاك المنهج منهجاً علمياً تحليلياً ثم تطبيقه في مختلف الحقول المعرفية، ونقله الشكلانيون إلى الأدب لتتأسس على أيديهم البنيوية الأدبية.‏

وكان طبيعياً أن تبدأ الباحثة بالتعريف عن الشاعر وإن كان غنياً عن التعريف، لكن ربما مالايعرفه البعض أن حبيب بن أوس الطائي المولود عام ثمانية وثمانين ومئة وأحد أمراء البيان شامي الأصل، من قرية جاسم بدرعا، وكان رحل إلى مصر واستقدمه المعتصم إلى بغداد وقدمه على شعراء وقته فأقام في العراق ثم ولي بريد الموصل فلم يتم سنتين حتى توفي سنة إحدى وثلاثين ومئتين ، واختلف في تاريخ ولادته ووفاته وأجمع على فطانته وحبه للشعر وإجادته له.‏

من التعريف بالشاعر إلى دراسة ملامح حركة التجديد التي حمل بذورها شعره، انتقلت الكاتبة مشيرة إلى أهمية هذه الحركة التي استتبعت نشاطاً نقدياً واسعاً، ومن ثم وقفت على آراء أعلام النقد في شعريته قديمه وحديثه.‏

وانتهت إلى أن بذور التجديد التي غرسها أبو تمام ليست غريبة عن الشعر العربي، إذ إن ما يميز تجديده أنه سما بها في عالم الإبداع، وأعاد خلقها، مسنداً إليها وظيفة اختلفت عما أسنده إليها السابقون من وظائف ، فكان لنا من ذلك كله جملة من الخصائص التي هي ملامح شعريته، وعناصر مذهبه الفني والتي تجلت في لغته الشعرية وبيانه وبديعه وغريبه الذي جاوز فيه السنن. وتوقفت اسبر عند ظاهرة ذاك الغريب بغية إيضاحه وقابلته بين موقف الشعرية القديمة والحديثة من غريبه.‏

في الفصل الثاني من الكتاب تناولت الباحثة شعرية التضاد والتوازي عند أبي تمام بشيء من الإيضاح، وخاضت في إشكاليتي المصطلح والاتجاه النظري، والمفهوم والاتجاه التأصيلي، وتطرقت إلى النظرية الشعرية والبحث الأسلوبي، والانزياح بين الدراسة الأسلوبية والنظرية الشعرية، وأوضحت مفهوم الوظيفة في منظور الشعرية الحديثة، والمعروف عن أبي تمام إلحاحه في طلب المجانس والمطابق، إذ كانت الاستعارات البعيدة من أبرز الأسباب التي أثارت حوله خصومة نقدية التي لاتزال أصداؤها حتى اليوم، وفي هذه المسألة أسهبت الكاتبة في الحديث عن التضاد ولغة الشعر عند أبي تمام، وشعرية الطباق والمقابلة، والطلل وشعرية الطباق، إضافة إلى شعرية التوازي ومفهومه ووظائفه ودعمت رأيها بالكثير من الأمثلة من شعر الشاعر.‏

وأفردت الفصل الثالث من الكتاب للحديث عن شعرية النفي والتكرار والجناس وأثره في إنتاج الجمل المعقدة وتحقيق تماسك النسيج من خلال مجموعة من النصوص اختارتها في ديوان الشاعر، وبينت العلاقة بين الجناس واللغة وآلية تحول الجناس إلى مبدأ شعري يتيح توليد الدلالات المتنوعة .‏

وفي نهاية بحثها توصلت إلى نتائج أهمها أن أبا تمام انطلق في تجديده من اللغة التي أتاحت له الكشف عن عالم غريب من المعاني المتجددة، وأن البديع في شعره لم يكن ضرباً من الزخرف اللفظي أو اللعب الخالي من الدلالة، إنما عنصر منتج للمعنى، فضلاً عن أن أبرز الملامح الشعرية لدى أبي تمام تعود إلى علاقات التناظر والتقابل والتماثل، وتتبدى في أشكال التوازي والتضاد والجناس والتكرار والنفي .‏

أخيراً إن علاقة الشاعر بتراثه تتجاوز مسألة السرقة، وخاصة إذا استبدلنا بفكرة المعنى الشعري الموروث فكرة الموقف الشعري الذي يتيح للشاعر أن يحاور تراثه حواراً واعياً يقوم على الائتلاف مرة وعلى الاختلاف أخرى.‏

وإن الشعرية الحديثة بما قدمته من أدوات تتيح الكشف عن شعرية النصوص، لم تكن غريبة عن التفكير النقدي قديمه وحديثه، وتوضح اسبر أن اتكاءها عليها في بحثها لم يكن انبهاراً بمنجزات العقل العربي، إنما محاولة لإثبات النضج الفني والنقدي الذي وصلت إليه العقلية العربية في أزهى عصورها.‏

وفي الكتاب ملحق للمصطلحات التي اتكأت عليه الباحثة في بحثها باللغتين العربية والإنكليزية، وثبت بالمصادر والمراجع.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية