تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ودعنا «مكة المكرمة» بـ 2005 عاماً ثقافياً ونستقبل «حـلــب» بـ 2006 عاماً ثقافياً

ملحق ثقافي
الثلاثاء 17 /1/2006
إعداد: ياسر قوطرش

"مكة المكرمة" ودعناها ثقافياً، لكن تبقى دائماً في قلوبنا .. تبقى في قداستها، بالنسبة إلينا نحن المسلمين،

وكما ذكرت عنها (في مقالتي لصحيفة "الجزيرة")، إننا ننحني الله تعالى عن طريقها خمس مرات يومياً .. أي نعيشها حتى لحـّدنا. "حلب" .. لقد كانت سهول سورية الشمالية وهضابها مأهولة بالناس البدائيين خلال العصور المطيرة الأربعة التي تقابل الزحف الجليدي في شمال أوروبا، وفي غرب الكرة الأرضية "القارة الأمريكية حالياً" حيث كانت الغابات تغطي معظم أرجائها، وكذلك الحال في فترات انحسار الجموديات حيث كانت تسود سهوب شجرية تكثر فيها الطراد، أي منذ ألف قرن على الأقل. عهد مغرق في القدم، على ضفة نهر كان يضج بالحركة والحيوية ويتدفق خصباً وخيراً، اختارت جماعة من الناس موقعاً لسكنها، هذا الموقع بدأت الحياة فيه، ومن ثم بدأت زراعة أرضه الخصبة، وقام السكان بحفر كهوف في مرتفعات الموقع لتشكل هذه الكهوف أول تجمع سكاني إنساني في الجنوب الغربي من المنطقة "مدينة حلب حالياً". ثم لم تلبث تلك الجماعة أن تركت الكهوف بعد أن ازداد عددها لتبحث عن مكان للسكن أوسع وأرحب، فاتجهت شمالاً مقتربة أكثر فأكثر من النهر متخذة بيوتاً في مكان (تلة السودا حالياً) حيث ظهرت فيها آثار تدل على ذلك، نتيجة حفريات التنقيب الحديثة. انتقلت الجماعة بعد أن استوطنت ذلك التل سنوات طويلة إلى مكان مرتفع آخر قريب جداً من قويق هو حي "العقبة" حالياً فنشأ تجمع في هذا الموقع، تجمع أصبح ذات يوم عاصمة مملكة يمحاض. لا يمكن فصل تاريخ منطقة حلب عن التاريخ، لأن هذه المدينة دخلت سجل التاريخ لأول مرة على مسلة الملك الأكاديمي "نارامسين"، التي اكتشف في ديار بكر "آمد" في الألف الثالث قبل الميلاد، تحت اسم آرمان، وتكرر اسمها في كتابات إيبلا "تل مرديخ"، ويذكر أن الملك الأكادي قد فتح في عام 1450 ق.م مدينتين لم يسبق لأحد أن فتحها، هما آرمان وإيبلا. ظهرت مملكة يمحاض في منطقة حلب وسكنها العموريين الذين وفدوا إليها من شبه الجزيرة العربية في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، أقاموا فيها هذه المملكة "يمحاض" التي لعبت دوراً مرموقاً حتى أن ملـِّكـُها "ياريم ليم" نهض لنجدة حمورابي مالك بابل في عام 1800 ق.م، وكانت سلطته تمتد على عشرة ملوك تابعين كما ذكرت النصوص التاريخية. وكانت منطقة مترامية الأطراف، يظهر من مكتشفات ماري "تل الحريري" أن حلب كانت عاصمة مملكة يمحاض، فيحيط بها من الشرق مملكة كركميش "جرابلس"، ومن الجنوب مملكة قطنة "المشرفة" الواقعة بين حمص وسلمية، وكانت السلالة العمورية ذات الأصل الكنعاني حكمت منطقة حلب ابتداء من الألف الثاني قبل الميلاد. وأقدم تاريخ لمدينة حلب، كان في عهد ريموش الأكادي "2530 ــ 2515 ق.م" وخلـّف هذا سارغون الأكادي ومن ملوكها آنذاك لوكال أيضاً، وورد ذكرها في أخبار رمسيس الأكبر، وفي أخبار حمورابي في القرن 17 ق.م. وفي أخبار شلمنصر "858 ـ 824 ق.م" ملك آشور، الذي فتح حلب سلمياً، وقدم القرابين لإلهها "حدد"، وورد ذكرها في آثار الحثيين والعمالقة أيضاً. حاول حاتوسيل ملك الحثيين الاستيلاء عليها لكنه فشل، فاحتلها ابنه بعده، ودرمها حوالي سنة 1806 ق.م وظلت محتلة حتى سنة 1650 ق.م وفي القرن 18 و 17 ق.م احتلها الميتانيون، وفي سنة 1483 ملك آشور وبقيت في أيدي الآشوريين إلى سنة 612 ق.م. وقد احتفظت عاصمة سورية الشمالية باسمها دون انقطاع تقريباً، خلال 40 قرناً: فقد وردت بالوثائق الحثية تحت اسم خلبا، وفي كتابات تل الحريري "مكتشفات ماري" هلبا، وفي الفرعونية خرب وخالوبو، وفي الوثائق الأكادية الكلدانية الأسماء: خلابة، خلبو، خلمان، خلوان وأخيراً حلاب. فحلب متحف التاريخ، وحديقته، وآثاره، منذ بدأ الإنسان يترك أثراً على وجه المعمورة، وهي المدينة الجامعة لعمالقة الشواهد المعمارية الخالدة التي تقترن عظمتها بعظمة أبنائها منذ أن وجدوا، إنهم سلسلة من الخالدين، من سلسلة منطلقها الأزل ومستقرها الأبد .. تجد فيها الخلق الحضاري والإبداع المعماري والعمراني لا تفنى عبر القرون، ولا يبطئ حركتها تراكم الأجيال .. إنها المدينة المفعمة بالحيوية الفاعلة المبدعة، المدينة التي لم يغب شعاع عطائها منذ بدأت تشع، وثمة مقولة يرددها باحثوا التاريخ وعلماء الآثار: "ولدت حتى شملت رقعة كبيرة من الأرض"، فإذا صحت على بعض المدن القديمة التي بقي من أطلالها ما يذكرنا بها "كتدمر وأفاميا" أو على تلك المدن التي اندثرت تماماً "عاد وثمود" فإنها لا يمكن أن تطبق في حال من الأحوال على مدينة حلب. فهذه المدينة التي عاصرت نينوى وبابل وممفيس، والتي تعرضت كباقي المدن، للغزوات والحصار والفتح والتحرير عشرات المرات أو كانت تطولها أيدي الحيثيين والمصريين "الفراعنة" والآشوريين والفرس والأرمن والسلوقيين والبيزنطيين والعرب المسلمين والفرنجة والمغول والأتراك "العثمانيين" والفرنسيين والإنكليز، لا تزال شامخة الرأس، رابضة، فوق الهضبة السورية وكأنها تهزأ بعوادي الزمن، في وقت لم يبق فيه من باقي المدن الغابرة، التي كانت عواصم امبراطوريات عظمى قديمة، سوى الأسماء وأكوام التراب والأطلال. حلب .. بدلاً من أن يشهد التاريخ مولدها، شهدت مولد التاريخ، فلا نكاد نعثر على حضارة قديمة إلا وفي حلب رائحة تدل عليها، وغصن أخضر يطل علينا من خلف القرون، وقد شابت القرون، وما زال غصن حلب أخضر.. فهنا قامت كنيسة خالدة، وهنا جامع متفرد في طريقة بنائه وعمرانه، وهناك مدرسة وبيمارستان وحمام ... إلا وتجد له دراسة لبنائه وواجهاته الرائعة. وعلى طول المدينة من أقصاها إلى أقصاها يمتد السوق القديم المغطى، وترابط أجزاء مركز المدينة، قريبها ببعيدها بوشائح تؤكد القربى، حتى لتحس بأن حلب جسداً نابعاً بالحياة مدى الحياة، يضرب في أعماق الأزل بجذوره، ويطلق فروعه إلى الشمس، يعانق الأبد بعطائه، وعطاء هذه الأمة الخالدة، هذه الديمومة نسْخ الوجود إلى أدق تفاصيلها حتى تحس أنك أمام هيكل الوجود البشري ووجود الإبداع المعماري. فهي لا تزال عامرة مزدهرة منذ منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، تدل على ذلك رُقم مدينتي "أورو ــ ماري" سابقاً وفيما بعد رُقم مدينة "إيبلا"، فهي المدينة الوحيدة في العالم التي تجمع فيها كل مدارس التاريخ .. تاريخ العمارة بتواصل زمني فريد، فقلما وجدت حضارة في العالم القديم إلا وفي حلب آثار لها تدل عليها وتذكر بها، فهي متحف كبير، هي للحضارات والعمارات والفنون منذ بدأ الفن يتسلق جدران الكهوف إلى أن ارتقى إلى معارج الكمال في كنف الحضارة العربية الإسلامية. المراجع: سلسلة بلادنا (1) ــ محافظة حلب ــ شبكة الانترنيت.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية