|
ملحق ثقافي
تعكس لوحات (مصطفى ناصر ) العديد من الهواجس التي رافقت عملية إبحاره في عوالم مختلفة، ربما تكون من بينها عوالم الشاعر نفسه. حيث يصبح الإبحار كمعادل تشكيلي مواز للإبحار الحقيقي والجغرافي، والذي لا يعني مجرد التنقل في المكان والمسافة، بل يدلل أكثر على قدرة صاحبه على الامتلاء الداخلي مما يثري تجربته الحياتية والتشكيلية على حد سواء، ويصبح بذلك الحديث عن مفهوم " المغامرة " حديثاً له الكثير من الجدوى والفاعلية للاقتراب أكثر مما قدمه (ناصر ) في هذا المعرض. حدود الوعي ـ الانتظام واللا انتظام : بالرغم من كثرة العناصر والعلامات الموزعة في فضاء اللوحة إلا أن الفنان استطاع إخضاعها لمنظومة الحركة من وضع ومن شحن وغيرها من إحداثيات الوعي و اللاوعي باعتبارها حقول معرفية للنشاط الإنساني التي تنتمي إليها تلك العناصر. ولهذا نلحظ ملامح لتلقائية متجلية في الانتظام واللا انتظام اللذين يؤسسان للوحة (ناصر ) ويقومان بهيكلية البناء التكويني فيها، والعناصر التي تبدو للوهلة الأولى مشتتة ومبعثرة،
سرعان ما ندرك مدى انسجامها وتماسكها وانتظامها في تكوين اللوحة ووحدتها، الذي يبدأ كفضاء مخطوط ثم يتحول شيئاً فشيئاً إلى فضاء ملون، وفق تصورات تشكيلية، هذه السردية التي لا تقوم في لوحات (ناصر) بمجرد عرض حكائي، بل تنطوي على موقف نقدي وأحياناً تهكمي للعصر الذي يصرنا في منظومته وخصوصياته، بفعل الكثير من الإكراهات والإغراءات. يتميز هذا السرد أيضاً بعدم مباشريته، بالرغم من وضوحه، إنه يرتكز إلى تلك العلامات التي تنتمي إلى عوالم مختلفة عن الرسام التي تنتمي إلى عالم الوعي و اللاوعي، و التي أسست لمخزون الذاكرة، يقوم باستحضارها بعفوية و بذكاء. الطرافة هي السمة الأخرى لذلك السرد، فالعناصر و الأشياء الموزعة في لوحته مألوفة لنا في الغالب. و لكن الطرافة تأتي من الجمع بينها في فضاء واحد، و ربما هي تشكل عوالم البحار و تعبر بامتياز عن تداعيات اللحظة التي يعيشها، و الواضح فيها بجلاء البحر و السفن الحزينة الضائعة، نساء هزيلات، وجوه حائرة و تائهة، سمك و هياكل عظمية، جرائد، و أقنعة إفريقية غريبة، خربشات خطية عربية، و يونانية، و طلاسم، و أحجيات، و عمليات حسابية و معادلات هندسية، و نشرات الأحوال الجوية. و غيرها... كل ذلك يؤسس القوام السردي في جميع لوحات (ناصر ) الذي يجعلنا من خلالها نعيش الحكايا بتفاصيلها دون أن ندرك مجرياتها، و يغرينا في التواصل مع عوالمها " بصرياً " دون أن نتمكن من إعادة سردها حكائياً. الزمن : الغابر / الزائل : الخصوصيات الزمانية لهذه اللوحات تلتقي مع جمالية العابر و الزائل، و لوحاته تفصح عن مرجعية لتلك الجمالية تتعلق بالرسوم الهامشية و الخربشات المنتشرة على الجدران، أو بقايا الملصقات و الأفيشات على اللوحات الإعلانية الموجودة في دول الغرب الأوروبي و الأمريكي. إن المرتكز الثابت في لوحات (ناصر ) هو نزولها إلى التأسيس على عناصر تأتي كتداعيات حرة لخربشات تتسم بالعفوية، التي تقترب أحياناً من رسم الأطفال من ناحية التبسيط و الاختزال و تجاهل القواعد، إن الحركية الكامنة في هذه التداعيات توحي بالإمكانية الدائمة للتبدل والزوال، مما يمنح و يعزز الطاقة الحركية للوحة و يجعل عين المشاهد لا تستقر في اتجاه محدد، بل يفرض عليها التجوال بين أرجائها لتكتشف أولاً هوية العناصر و الأشياء، للتعرف عليها، و ثانياً لتقوم بالتأليف بينها لاكتشاف دلالات السرد، و ثالثاً ربما لإعادة اكتشاف قراءة أخرى لكل تلك التداعيات. الإحساس باللامرئي : لوحات (مصطفى ناصر ) تؤكد عدم إمكانية تجاوزها، فهي تستوقفك، بل و تستفزك لتأملها، ذلك التأمل الذي يكمل عمل الفنان و يؤكد على تكامل عناصر الإبداع التشكيلي مع عناصر قراءته، حيث العمل الفني يجب أن يرى و يحاور. إن تلك الوحات المشحونة باللا متوقع، و بقدرة لا تنصب على التجدد و عدم الثبات في تقديم نفسها من جديد كلوحة مغايرة للمألوف، على مستوى الشكل القائم على خطاب تشكيلي متمايز. تتميز لوحة (ناصر ) بثنائية "الإحساس " و " مثير الإحساس " و انطلاقاً من الاختلاف بينهما نستطيع أن نقترب من صميم الممارسة التشكيلية عنده، فهي ليست ممارسة هدفها العرض، بل إنها ترمي وهذا هو الأهم إلى تحويل العابر و الزائل إلى مرئي، و قد أكد (بول كلي) بأن هدف الفن ليس تصوير المرئي، بل أن يجعل اللا مرئي مرئياً. إن قدرة الفنان على خلق علاقات بين الأشكال و الألوان وفق مقتضيات و معادلات تشكيلية تثير فينا مجموعة من الأحاسيس و تخاطب بذلك الجهاز العصبي عند المشاهد و ليس عينه فقط. تنطلق تلك العلاقات من إحساس فطري عند الفنان في تعاطيه التشكيلي مع محيطه و عالمه من جهة، و في تعامله مع لوحته من جهة أخرى، التي تصبح مساحة مزدحمة بالعناصر و الأشكال و تجمع عدداً كبيراً من الأفكار و الدلالات في قالب واحد، يتسم بالانسجام خاصة على مستوى البناء العام للوحة. إن خصوصية هذه البناءات تنم عن جرأة واضحة متأتية من العفوية في التراكيب التي تجلب الأنظار إليها بعصريتها و عالميتها. بالإضافة إلى حس الطرافة الموجود فيها، مرده الإحساس الفطري بالعالم و بالموجودات، إلا أنها تدل على أن الفنان ينسحب نهائياً من رغبة إنتاج المرئي بإخلاص تام، ليهتم بعملية التركيب و التناسق لأشكال ذات دلالات و إشارات لمرجعيات واقعية معاشة. إن (ناصر ) الذي يدلل من خلال هذا التمايز قدرته على التخلص من منظومة ما هو جاهز و نمطي لعالم ليس فيه ما يخصنا، يؤكد بذلك التعبير التلقائي قدرته على التحرر و الإفلات من الإكراهات والانفصال عن أي اصطناع، مما يجعل لوحاته بذلك قادرة على التعبير عن أرواحنا و قلوبنا. إن هذا المعرض الذي أراده الفنان تحية إلى الشاعر اليوناني (كافاديا) أرى أنه بالتوازي مع ذلك كان تحية إلى اليونان هذا البلد الصديق النابض في الضفة الأخرى من المتوسط. |
|