تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


هجـــــران

ملحق ثقافي
الثلاثاء 17 /1/2006
ربى منصـــــور

سلم راجح جسده إلى دفء الشمس، وراح يتأمل فيض النور المنسكب على الواجهة الزجاجية..

ولكم عشق شمس الطفولة تغزو الخزامى وأكواخ النمل والفراشات، ومازال يهوى هذا النور الذي يطرق أبواب المدينة كل يوم فيدوم سكانها في تيه مسعور بأعراس عجائبيه. وقف أحد العابرين أمام الواجهة، ثم طفق يرمق الكتب المعروضة بعينين من فضول.غير أن وجهه تبدى مألوفاً حينما دخل المكتبة، وقال بصوت أجش: - رفوف الواجهة فارغة تقريباً!. أين ديواني ؟ وعندئذ سعل راجح، ثم أجاب بنبرات فظة فضحت انزعاجه المباغت: - إنني أكشط العتمة عن زجاج الواجهة بدواوين أضعها في الداخل. وتلكأ قليلاً قبل أن يحضر نسخة من الديوان، ويضعها في الواجهة ولعله شعر بالراحة حين قال الكاتب مودعاً: - الكتب مثل الفتيات الجميلات، يجب أن يخرجن من بيوتهن ليراهن الشبان الراغبين في الزواج. ولم يكد الشارع يلقط جسد الكاتب بإسفلته المضمخ بنسيم العبور حتى ازدحمت واجهة المكتبة بثلة كتاب خرجوا لتوهم من مقهى قريب. واكتظت أذناه بحديثهم الصاخب، فكمن كالحاجب يراقب وجوههم وقاماتهم المضطربة. وسمع أحدهم يقول بنبرة ساخرة: - سأبث إشاعة كاذبة مفادها أن الرياضة الذهنية تقوي البدن وتنشط الدورة الدموية. فانبرى الثاني متهكماً:- من الأجدى أن تستأجر مقهى تحلي القهوة بالكلمات وتفرش طاولاتها أغلفة كتب. وتنهد الثالث، ثم قال بصوت له طعم الكآبة: - لن تطيب نفسي بالنوم حتى أؤلف كتاباً يتحدث عن الآفاق الرحبة التي تفتحها المعرفة أمام العقل، وتلوذ فصوله بالترادف الحتمي بين الكاتب المنظور والكتاب المقروء للكون كي يشعر الانسان بعظمة الحياة. وسأضع هذه الجملة- التي قرأتها في كتاب المقابسات- عنواناً لكتابي :ماالرأي؟. نهاية الفكر. وسيكون مستهل المقدمة مقتطفات نثرية لقحت انتباهي لقحاً أثناء بحثي عن كتاب الإرشادات الإلهية. أتدري لم هذا كله؟ لأن ضمائر الخلق سابحة في آفاق بحار العقل لا لغاية بادية يقصد إليها، ولا لأية هادية تدل عليها، ولكن لسر التهم الأسرار. فصاح الأول وأوداجه نفختها السخرية: - إياك أن تورط نفسك في نشر الكتاب قبل أن يستأجر ماجد مقهى القراءة. ثم دخلوا مقهقين إلى المكتبة، وما لبثوا أن تفرقوا فيها وهم يتفحصون عن عناوين الكتب. وبعد دقائق تجمعوا أمام راجح، ولعلهم لم يختاروا كتباً بعينها، إنما اكتفوا بشراء بعض المجلات والجرائد. وتتالت قاماتهم أمام ناظريه يقبلون ما اشتروه، غير أن الثالث طلب ورقة وقلماً من راجح ليكتب عليها أسماء أصدقائه الأدباء وعناوين كتبهم الموجودة في المكتبة. وحينما فرغ من الكتابة قال لراجح بنبرات بالغة اللطافة والجدية: - لست أدري إن كان وجود هذه الكتب في الواجهة سيغير إيقاع الفضول، لكنه بالتأكيد سيكيل واجهتك بمقاييس التجارة الصرفة. وانصرف الكاتب، وانعقد جبين راجح، وتربعت رفوف المكتبة محشوة كتباً لم يبع منها إلا نسخاً قليلة مدى سنة. وإذا اعتبر ذلك دلالة على جهلة بأفانين التجارة، أخذ يتناول كتباً من الرفوف، ثم يرتبها في الواجهة. وما أن امتلأت حتى جلس في مقعده لاهث الأنفاس. سوى أنه بوغت بالعتمة التي خيمت على أرجاء المكتبة بعد أن رص الكتب على اللوح الزجاجي. وتراءت في مخيلته مدينة هجرتها الشمس، وكان النهار لحظتئذ محراب عتمة رصعه النور بكآبة مرة. وخامره حزن ضاغط على صدره، ولعله همس منزعجاً: - أي تجارة تلك التي تروّث الاختناق؟. واستخفه الضيق فخرج إلى الشارع بخطوات من عجلة، وطفقت تسبح نظراته في بحر النور، وإذ استرخت أوصاله بين أحضان الشمس استولى ارتياح بالغ عليه وهو يلاحق بنظراته سرب حمام كان يطير أميالاً إلى السوق فتنعكس ظلاله على الرصيف. ولقد اكتشف لأول مرة نعمة كانت غائبة عن عينيه، فاندفع إلى الداخل، ثم أخرج طاولات عدة وضعها على الرصيف الواسع إلى تخم المكتبة، ثم أخذ يفرشها كتباً جمعها من الواجهة. وما هي إلا نصف ساعة حتى جلس فيما عيناه تمسحان اللوح الزجاجي المصقول بنظرات مبتهجة. وانفرج صدره إذ تخلص من العتمة. واطمأن متأملاً ورود النور تذر حبات طلعها على العابرين في الشارع... أحدهم يلف ثوبه عجلاً. وبعضهم ينظر خطفاً إلى الكتب المفروشة بينما العرق يتكوثر شقاء وكدا على جبينه، ولعل لحم وجهه تكلثم أرغفة خبز التهمت الكلمات كلها..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية