|
ثقافة على العملية الإعلامية، فلا يستطيع أي إعلام مهما بلغ من موضوعية إن صح التعبير أن يقدم صورة متكاملة عن الواقع المعاش واليوم مع تطور تقنيات الإعلام وأدواته لم يعد مطلوباً منه أو لم يعد يضطلع بمهمة نقل صورة عن الواقع وإنما أصبحت لديه مهمة جديدة هي خلق العوالم الافتراضية أو الخلبية، تلك العوالم التي لا وجود لها أصلاً في عالمنا بل يجتمع على إيجادها مئات المفكرين ليضعوا ملامحها الأساسية وأطرها التي يجب أن تقدم فيها. وهذا الافتراض الذي طال كل شيء اعتباراً من الصورة التي قد لا يكون لها أصل أبداً أو يطرأ عليها تعديل ما فينسف أصلها ويقدم لها مضامين جديدة مروراً بالخبر الذي قد يبنى على الصورة المفترضة وانتهاء بالفيلم السينمائي وما بين هذه المحطات جميعاً يتحول الافتراض من خيال إلى حقيقة وتتولى وسائل الإعلام بشتى أشكالها مهمة اقناع المتلقي بحقيقتها وواقعيتها كما تتولى مهمة تكريسها في العقل الباطن لهذا المتلقي لتتحول من حلم يشاهده في الواقع إلى واقع يطارده في الأحلام بحيث تصبح هاجساً وأملاً يلهث وراء تحقيقه في حياته المعاشة، والأمر لا يقتصر على ما يقدم للكبار وإنما حتى ما يقدم للأطفال في صورة أفلام الكرتون التي تحفز الطفل بصغر مقدراته العقلية على التقليد لكل ما يشاهده كلمة وفعلاً وسلوكاً وردة فعل، لكن السؤال الذي يطرح نفسه ما الذي تفعله العوالم الافتراضية في الإنسان هل حقاً تؤزم علاقته بالواقع وتحدث فيه صدمة تتحول مع مرور الأيام إلى خلل يصعب إصلاحه؟ أم إنها تقدم له طموحاً مشروعاً بتغيير واقعه إلى ما هو أفضل؟. بات الافتراض أي خلق ما هو غير موجود أو تغيير الموجود إلى ما يطمح إليه الإنسان جزءاً من واقع السينما وبات ما يبث من أفلام سينمائية على مدار الساعة في القنوات التلفزيونية يعبر بصورة حقيقية بل ويتبنى هذه العوالم ليصبح المشاهد أسير عوالم الافتراض هذه التي تعكس ما لا يشبه حياته من قريب ولا من بعيد. إن من يقف ضد عوالم الافتراض يرى فيها شبحاً قادماً من المجهول يؤسس لصراع قوي بين ما يحلم به الانسان ويفكر به وبين ما هو موجود على أرض الواقع وبذلك تنتقل المعركة بين المحطات التلفزيونية في التسابق لبث ما هو جديد وجذاب وممتع، ويحمل بوادر الاقناع بواقعيته إلى داخل الإنسان ليعيش حالة صراع مع ذاته بين ما يرغب به هو وبين عقله وهذا الصراع يوماً إثر يوم ومع تعاظم فترات التعرض يتحول إلى صدمة عند العودة إلى الواقع الذي لا يحمل شيئاً مما يشاهده في شاشات التلفزة، ولا يتوقف الأمر عند حدود الصدمة بين الواقع والافتراض وإنما تتحول إلى أزمة لدى المشاهد تنتقل عدواها سريعاً كالوباء إلى كل المجتمع، فلا المشاهد قادر على العودة إلى توازنه النفسي ولا التلفزيون بكل مغرياته قادر على تقديم صورة مغايرة لما يعرض، وخاصة أن القائمين عليه أوكلوا مهمة الغرس والتكريس لهذه العوالم إليه بكل قوة ولم تعد على أجندتهم لائحة سوى الافتراض وهذه الأزمة النفسية بالدرجة الأولى ربما تولد عنفاً رمزياً أو مادياً وربما تدفع بالمشاهد إلى تقليد كل ما تقدمه شاشات التلفزة التي تحقنه يومياً بآلاف الصور والمشاهد لما يحدث وما لا يحدث وبالتالي لا يبقى أمام هذا المشاهد سوى الانجراف خلف ما يشاهده وخاصة أنه لا يعيش أزمة مع ذاته فحسب وإنما يعيش في واقع مليء بالأزمات حيث تشكل عوالم الافتراض فرصة له للهروب لن يدعها تفلت من يديه. ولكن بالمقابل ورغم كل مساوئ هذه العوالم التي تقدم فإنها طموح مشروع بالتغيير للقائمين عليها ومن حق الانسان أن يطمح في تغيير واقع الأمر حتى لو بالافتراض وخاصة مع وجود رؤى لا ترغب بالتغيير مهما كان شكله، والأسوأ من ذلك أن هذه الرؤى بعيداً عن المسميات هي التي تضع الخطوط العريضة لما يجري في كل شيء ابتداءً من السياسة وانتهاءً بالمجتمع وهي من يشجع على عوالم الافتراض لكنها تشجع على تقديمها بصورة هدامة تقضي على ثقافة العمل والاجتهاد وإعمال العقل وتكرس لواقع الخمول واليأس بصعوبة التغيير بل بحتمية البقاء مكانك راوح فلا يجد الانسان بداً إلا الهروب وراء الافتراض في خياله. فالمطلوب هو افتراض ما هو أفضل، ما يؤسس لحياة كريمة يعيشها الإنسان، لحياة بعيدة عن الخوف من الكلمة الحق ويؤسس لمجتمع فاعل فيه حراك وليس لمجتمع تضيع فيه الكلمة والفعل ويبتعد عن التفكير السليم ويعطي الإنسان الذي هو الأساس إجازة دائمة من مهمته في التغيير. |
|