|
ثقافة الحالمة في مخ رخو قذرة كالخادم المترهل على أريكة سأوقظها بنتف قلبي المدّمى ساخراً بصفاقة وفي روحي لايوجد شعرة شائبة واحدة ولا رقّة الشيخوخة صوتي يرعد مجلجلاً في هذا العالم وأمضي جميلاً في الثانية والعشرين.. في عمر الثانية والعشرين أبدع فلاديمير ماياكوفسكي قصيدته (غيمة في سروال) التي تُعتبر من أهم قصائده وأنضجها، وبها بلغ قمة الإبداع الشعري. اختار هذا العنوان بقصد السخرية من الرقابة التي لم توافق على العنوان الأول. وقيل إنه كتبها نتيجة علاقته العاطفية المضطربة بـ (ليلي بريك)، أخت الكاتبة والمناضلة ايلزا تريولي محبوبة أراغون، التي جمعتها بماياكوفسكي علاقة صداقة تتحدث عنها في كتابها الذي ألّفته عنه، وجاء معنوناً باسمه (ماياكوفسكي). في بداية الكتاب تستغرب ايلزا ألاّ يكون ضمن الكتب التي أتلفها رجال الغستابو أثناء الحرب العالمية الثانية بمقرها في فرنسا. تشير إلى أن نص الكتاب ظهر في عام 1939م. عن الصديق ماياكوفسكي تُسهب ايلزا في الحديث، ذاكرةً أهم محطات حياته من الولادة التي كانت في السابع من تموز عام 1893م في بغدادي (قرية في جورجيا) وتحدّر من عائلة أحد خفراء الأحراج. تسرد الكثير من ذكرياتهما معاً، كيف التقته لأول مرّة، وكيف أصبح صديقاً لها، وتورد بعضاً من أقواله التي تقتطفها من مؤلفاته هو..(قابلته عند بعض الأصدقاء...كنت وقتئذٍ في سن الخامسة عشرة، وقد عراني شيء من الرعب لدى رؤيته. وبعد مدّة وجيزة شاهدته في بيتنا، يوم أتى ليبيع أول قصيدة كبيرة له عنوانها: ثورة الأشياء). تصف هندامه المتواضع الذي كان يأتي به لمقابلتها وأقاربها البرجوازيين، وكيف أنها بذلت الكثير من الجهد لإقناعهم بهذه الصداقة. نهايةً تمكنت من إقناعهم بماياكوفسكي، بل أصبح الأهل يستبقونه لتناول الغداء، ويسمحون له بالمكوث لينجز رسومه التي كان يعتاش منها في تلك الفترة، لأن أول شيء تعاطاه مع الإبداع كان الرسم، وفي عام 1911م انتسب إلى معهد الفنون الجميلة. بعدما كان خاض غمار النضال في صفوف الحزب البلشفي (في سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة أخذ يميل إلى الفلسفة وخاصة فلسفة هيغل..في عام 1908م في الخامسة عشرة من عمره انتسب إلى الحزب الاشتراكي الروسي واُتهم بكتابة البيانات، أطلق سراحه..أُوقف مرّة أخرى.. وقد أدين هذه المرة. وأثناء الأحد عشر شهراً التي قضاها في السجن شرع يلتهم الأدب التهاماً فقرأ المعاصرين والكلاسيكيين. وعندما خرج من السجن عام 1910م وجد نفسه أمام معضلة. قال: كيف السبيل إلى أن أناهض هذا الاستيتك البالي؟). بعد ذلك وبعدما انتسب إلى معهد الفنون ساهم في أعمال جماعة سُميت (رواد المستقبل) التي أخذت تثير ضجة حول ماياكوفسكي مشيرة إلى أنه شاعر عبقري حتى قبل أن يكتب الشعر. أكبر أفراد هذه الجماعة كان الشاعر الأوكراني بورليوك، قال له: (الآن أعدّ نفسك لتكون شاعراً)، وشرع ماياكوفسكي في الكتابة. حركة المستقبليين كانت تدعو إلى الحداثة، والمستقبلية ليست مدرسة بل هي مستوى جديد كما يصفها بورليوك. يقول ماياكوفسكي: إن المستقبليين الروس هم رجال المستقبل، المسؤولون عن قتل الفن العجوز الذي يأكله العث. ولهذا عمد إلى تكسير البيت الشعري التقليدي معتمداً إيقاعاً جديداً للشعر الروسي، وتميّز بتوجهه في قصائده على عامة الشعب، مبتعداً عن النخبوية، ومقدِّماً نصاً بسيطاً غير معقّد. كانت ايلزا ترى أن صور الحرب بين مختلف القوى المعادية وبين الاتحاد السوفييتي هي المهيمنة على قصائده..وهو أمر طبيعي لمن كان من أعظم شعراء ثورة 1917م، إذ وضع كل موهبته في خدمتها. ومع هذا لم يمتنع عن الإشارة إلى أخطاء الثورة عندما دعت الحاجة، إذ كتب مسرحيتي (البقة، الحمّام) اللتين مُنع عرضهما في عهد ستالين لأنه يعرض للثورة بطريقة ساخرة. ماياكوفسكي عرف كيف يشعل النار بكلمة، شاباً يافعاً حمل القلم فأدهش، وأول من أدهشهم فأعجبوا به، صديقته ايلزا التي قالت..(كنت أتحدّث عن شعر ماياكوفسكي كلما سنحت لي مناسبة، وأجادل وأدافع عنه حتى بُحَّ صوتي، وأود أن أبرهن وأوضح - بكل مافي فتاة في السابعة عشرة من حماسة، تؤمن بأن الشعر هو مهمة الحياة الكبرى - عبقريته التي كانت مشرقة في نفسي. وأنا التي لم أكن أستطيع أن أحفظ بيتاً واحداً من الشعر، استطعت أن أردد عن ظهر قلب صفحات كاملة لماياكوفسكي..كان المثقفون وعلماء الجمال يقولون بحقد صريح: إنهم لايفهمون من شعره شيئاً، مع أنهم يفهمون من شعره مافيه الكفاية ويفهمون أنه موجّه ضدّهم، وأنه واضح كقميصه الأصفر وأنه جدع لأنف البرجوازية). في هذا الكتاب تحاول ايلزا التأكيد على فرادة ماياكوفسكي في الكثير من الأشياء كما فرادته في موهبته (لم أضع هذا الكتاب إلاّ لأجرّب القبض على ظل إنسان، على ظل قصيدة). انتحر ماياكوفسكي في 14 نيسان عام 1930م لأسباب عدّة. قيل إنه أقدم على ذلك بسبب أن السلطات منعت سفره للقاء حبيبته، وبعد النقد اللاذع الذي وُجّه إليه في الصحافة وبسبب خيانة الثورة لتطلعاته. قال مرّةً ذاك الذي اعتاد انفاق المال دون حساب، والذي لم يكن يقيم وزناً لحياة الترف والدعة: أنا، لاأملك فلساً لقد جعلتني أشعاري صفر اليدين هي لم تؤثث لي مسكناً من خشب الأبنوس وماخلا قميصاً دائم الجدة والنظافة أقول بإخلاص: لست في حاجة إلى شيء. |
|