تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الأزمة في سورية والدبلوماسيّة

أخبـــــار
الأربعاء 22-2-2012
بقلم: أ.د. مها خيربك ناصر

مما لا شكّ فيه أنّ الأزمة السوريّة أزمة مركّبة ومفتعلة ، وقد شارك في صناعتها وفبركتها عددٌ من المؤسسات الحكوميّة والاستخباراتيّة العالميّة منذ زمن غير قصير، لأنّ سورية كانت ،

ولا تزال، الرقم الأصعب في مشروع تفتيت المنطقة وشرذمتها وتحويلها إلى دويلات عرقيّة وطائفية ومذهبيّة ، ليكون وجود هذه الدويلات مبررًا لوجود الدولة الدينيّة الوحيدة في العالم، من جهة، ويضمن أمنها واستقرارها وسيطرتها على المنطقة، من جهة ثانية، فتكون هذه الدويلات الناشئة، وفق زعمهم ومخططاتهم، خاضعة لسلطة الدولة اليهودية الأقوى والأكثر مناعة بعد تفتيت قوة الجيوش العربيّة التي ما زالت اسرائيل تحقد عليها على الرغم من اتفاقيات السلام المبرمة بينها وبين بعض الدول العربيّة.‏

تشير وثائق الكونغرس الرسميّة وغير الرسميّة إلى أنّ ما تتعرض له سورية من أزمات اجتماعيّة واقتصاديّة وانسانيّةجاء مطابقًا لمخططات وضعها متخصصون في ابتكار الأزمات الهادفة إلى إضعاف مناعة الدولة، وتشويه هيبة النظام، وزعزعة الثقة بالجيش، غير أنّ السياسة الأميركة والحكومات الغربيّة التابعة لها أصيبت بالإرباك، لأنّها تجاهلت مناعة الشعب السوريّ، وأخفقت في قراءة دور القيادة الحكيمة التي أثبتت قدرة ،قلّ نظيرها، على تفتيت الأزمات، وعلى التخفيف من نتائج ضغوطات كونية لم يعرف التاريخ العالميّ شبيهًا لها، فسقطت رهانات الدول المتآمرة على الوطن وعلى الجيش، فعلى الرغم من الإعلام الكاذب والمُضخّم عن الانشقاقات، فإنّ الجيش العربيّ السوريّ المقاوم والبطل سيبقى متلاحمًا ملتزمًا بقسم الدفاع عن الأرض والإنسان والكرامة والشرف.‏

لقد راهنت الدول الاستعمارية الجديدة وأتباعها من الحكام العرب على زعزعة الجسد الدبلوماسيّ السوريّ، فلجؤوا في بداية الأزمة إلى اختلاق خبرٍ كذّبته السفيرة السورية في فرنسا، وبقيت الروح الدبلوماسية السوريّة عصية على الإغراءات، ورصاصةً في عقل وتفكير ورغبات المتآمرين والحاقدين والساعين إلى إسقاط الدور القوميّ المقاوم والممانع، فتابعت السفارات السوريّة واجبها الوطني والقوميّ، غير آبهة بالمضايقات التي خططت لها جهاتٌ أزعجها صمود الدبلوماسيّة السوريّة، وساءها ما أبدته بعثاتها المنتشرة في العالم من ذكاء وفن وثقافة ووطنيّة وممانعة، من دون أن تتجاوز حدود البرتوكول الدبلوماسيّ، في وقت عملت فيه دول كبرى على تشجيع رؤساء بعثاتها على خرق الأعراف الدبلوماسيّة المتعارف عليها في العالم، آملين زعزعة سيادة الدولة السوريّة وتحويل ساحاتها إلى حلبات صراع يتكلّم فيها سفراء يستبيحون جوهر العلاقات الدبلوماسيّة، كما فعلوا في دول قريبة وبعيدة، حيث تُمارس بعثاتُ بعض الدول سلطاتٍ، تتجاوز الحدود المُتفق عليها.‏

خسرت الدول المتآمرة على سورية رهانها، ولم تتمكن من استباحة القانون الدوليّ على أراضيها، لأنّ الحكومة السوريّة تمسّكت بمبدأ النديّة، والشعب السوريّ أثبت مواطنة لا مثيل لها عبر التاريخ العالميّ والكونيّ، وذلك على الرغم من تكثيف الضغوطات في الداخل والخارج، فتضاعف الحقد على السوريين الشرفاء، وكانت النتيجة أن اجتمعت قوى الشر في العالم لتمارس شتى أنواع العقوبات، واستخدمت هذه القوى التهويل والتخويف والإغراء، وكلّ الأساليب التي فشلت في تحقيق أهداف المخططات، ما جعل كسينجر يصرّح لصحيفة أميركيّة قائلاً:«إن الرئيس حافظ الأسد هو الوحيدالذي هزمني في الماضي واليوم سورية بشار الأسدأدهشتني،فالشعب بغالبيته الساحقة يحبه ويقف معه ».‏

فشلت هذه القوى، أيضًا، في إستمالة الدولتين العظميين، الصين وروسيا ، اللتين مارستا حقهما في التصويت الحرّ غير المرهون لرغبات الهيمنة والاستعلاء والاستكبار، ونقضتا قرارات غايتها الأساس النيل من صمود الدولة السوريّة، حكومة وشعبًا، ما أفقد الساسة الأميركيين والفرنسيّين والبريطانيين والألمانيّة أبسط أصول الأعراف الدبلوماسيّة، إذ بلغ الحقد والحمق مبلغًا أفضى إلى استخدام عبارات لا تتفق والأعراف، في وقت حافظ فيه ممثل الدولة السوريّة على اتزانه ورقيّه وقيمه الحضاريّة، فوضع النقاط على الحروف بفن وذكاء ، وأثبت أنّ الدبلوماسيّة لا تكون بالفجور بل باستعمال الذكاء والكياسة على أسس وقواعد أخلاقيّة، هدفها تحقيق مصلحة الدولة، بما لا يتناقض والنصوص والمعاهدات والاتفاقات الدوليّة.‏

رسخّ موقف الدبلوماسيّة الروسيّة، والصينيّة دور مجلس الأمن الحقيقيّ، وعكس موقف دول البركس والدول المقاومة هيمنةَ المصالح الأميركية على مُقدِّرات العالم وكرامات الشعوب، وأبطل الفيتو المزدوج أحادية القرار الأميركيّ، الذي جعل من مجلس الأمن تابعًا للبنتاغون، فكرّس منظومة جديدة، تلغي الهيمنة الأميركيّة وتسند صياغة القرارت الدوليّة إلى حكومات دول تؤمن بإنسانيّة الإنسان، وتعمل على تبني مفاهيم دبلوماسيّة، قوامها إدارة العلاقات الدوليّة بأسلوب ينأى عن الصراعات والمواجهة،ويطمح إلى تحقيق العدالة والأمن والسلام الحقيقيّن، فتحوّل الصراع على سورية ، إلى صراع مع سورية ، صراعٍ سوف يغيّر، وفق قراءاتي، موازين القوى في العالم، وسيعيد صياغة مفاهيم جديدة لمجلس الأمن الذي شهد ستين فيتو أميركي لمصلحة دولة تقتل الأطفال والشيوخ والنساء، من دون أن يكون لمجلس الأمن موقفٌ إنسانيّ.‏

لقد أخطأت الدول العربيّة التي تبنت المخططات الأميركيّة والإسرائيلية، وقبلت أن يُسند إليها دورٌ أشعرها بالتورم والانتفاخ الذي ينبئ بتدهور سريع في صحة هذه الدول، فأصاب التورم قراراتها الهادفة إلى تخريب الوطن السوري العظيم وتفتيته، فراحت تتخبط في إعلان مواقف سترتدّ على من اتخذها سوءًا، وليس على الشعب السوريّ؛ فما هي قيمة الفعل الكيديّ المتجسد في سحب السفراء من سورية ؟ أليس هذا دليلاً على فقدان الأمل في تحقيق مطامع أميركا واسرائيل؟ أليس هذا صورة واضحة عن مدى الحقد على الشعب السوري؟ ألا يعكس تصرفهم خلللاً في تعاطيهم الدبلوماسيّ؟‏

إذا كانت الدبلوماسيّة هي فن الحوار وحسن المخاطبة في التوصّل إلى أكبرقدرٍ من المكاسب الاستراتيجيّة على حساب الفريق الدبلوماسيّ الخصم، فما الذي حقّقته الدول العربيّة من تعليق عضوية سورية في الجامعة العربيّة إذا كانت خصمًا لها؟ وما الذي حقّقه حمد والعربيّ في مجلس الأمن؟ وما الذي سيحققونه من سحب السفراء؟وما الذي سيجنونه من التحريض والدعم المالي والإعلاميّ غير حقد الشعب السوريّ ولعنة التاريخ؟‏

تؤكّد المعطيات أنّ هؤلاء سيخسرون، وستذهب أمنياتهم أدراج الرياح، وستنصر سورية ودبلوماسيتها التي تتقن فن المفاوضات ورعايةالمصالح الوطنيّةفي السلم والحرب، وفق مجموعة من المفاهيم والأعراف الدولية والإجراءات التي تنظّم العلاقات بين الدول وتخدم المصالح العلياعلىالمدىالبعيد.‏

جسّدت الدبلوماسيّة السوريّة قوة ممانعة، فهي أشبه بجيش وطنيّ مُدرّب ومتماسك ومختار، استطاع الدفاع عن الأمن والحريّة والسيادة والاستقلال، ولقد أثبت هذا الجيش المنتشر في العالم أنّه يستحق الانتساب إلى هذه الأرض المباركة الموغلة في القدم وصانعة الحضارات، وأنّه من سلالة شعب عظيم لا تهزه الرياح، شعب قادر على تفتيت الأزمات وتوظيف نتائجها انتصارات على المستويات الوطنيّة جميعها.‏

كاتبة - بيروت‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية