|
دراسات فهذه الثورة البيضاء الأصيلة التي لم ترق فيها نقطة دم واحدة خلافاً لما يطلق عليها مسمى (ثورات) هذه الأيام، فكان هاجسها الرئيس تحقيق مصالح مختلف فئات الشعب من عمال وفلاحين وصغار كسبة، والارتقاء بالوطن على كل الأصعدة، وترسيخ الأمن والاستقرار، والنهوض بالواقع والمجتمع والتنمية عبر بناء الإنسان والمؤسسات، وتقديم الخدمات في كل المجالات وتكريس الاستقلال والقرار الوطني، والعمل على تحرير الإنسان من رواسب الماضي الإقطاعي البغيض والظالم، وإطلاق طاقاته الخلاقة بما يخدم مسيرة التنمية والازدهار والرخاء. فثورة آذار المجيدة، التي قادها حزب البعث العربي الاشتراكي، انطلقت من أجل مصلحة الشعب ولتحقيق المساواة بين المرأة والرجل وتطبيق قيم العدالة الاجتماعية ومبدأ تكافؤ الفرص بين الجميع في الحقوق والواجبات، وقد لمس أبناء الشعب بمختلف شرائحهم منجزاتها العظيمة في السنوات اللاحقة حيث أشرفت النقابات العمالية والفلاحية والطبقات الكادحة على تنفيذ مشروع الثورة في كل تفاصيله، لتأخذ سورية بفعل اكتمال عناصر الثورة الخلاقة والأصيلة دورها وموقعها في معادلات المنطقة وتحقق حضوراً لافتاً وعريضاً على المستوى الدولي، وهذا الأمر لم يكن ليتحقق لولا طلائع النخبة الواعية من أبناء شعبنا والقيادات الاستثنائية الفذة التي أفرزتها، سواء في الجيش العربي السوري العقائدي البطل، أم في باقي مواقع القرار والمجتمع حيث ساهم أبناء الطبقات الكادحة إلى جانب الشخصيات الوطنية الشريفة بالانتقال بسورية من مرحلة إلى مرحلة أخرى مختلفة بكل المقاييس الحضارية والإنسانية. وخلال أكثر من نصف قرن عبرت سورية بثورتها الأصيلة منعطفات ومنعرجات خطرة، وتغلبت على صعوبات جمّة وضعت في طريق نهضتها وصعودها، ولم يكن بالإمكان عبورها أو تجاوزها لولا البناء القوي والمتين الذي أرست دعائمه ثورة الثامن من آذار ومن بعدها حركة التصحيح المجيد التي قادها القائد المؤسس الراحل حافظ الأسد. فقد أخذت سورية على عاتقها مسؤولية مواجهة المشروع الصهيوني والحد من مخاطره وأطماعه، واضعة شعار تحرير فلسطين وتمكين الشعب الفلسطيني المشرد والمظلوم من الحصول على حقوقه المشروعة، فأحبطت مشاريع الأعداء في إطار تصفية هذه القضية القومية المشروعة، ودعمت نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، وتبنت واحتضنت العمل المقاوم الذي أطلقته طلائع الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتحملت في أحيان كثيرة بمفردها الكثير من الضغوط من أجل هذه القضية المحقة، وواجهت الكثير من التحديات الإقليمية والدولية، لتأتي نكسة حزيران أو عدوان الخامس من حزيران عام 1967 في طليعة هذه التحديات والضغوط، وهو ما دفع القيادة السورية لتجنيد كل إمكانيات وقدرات الدولة والشعب من أجل إزالة آثار العدوان وتحرير الأرض المحتلة، فكانت حرب تشرين التحريرية العظيمة والخالدة بعد ست سنوات تقريباً من ذلك التاريخ، في حين أطلق أعداء سورية حركة (الإخوان المسلمين) الإرهابية والعميلة من أجل إحباط مشروعي ثورة آذار والحركة التصحيحية النهضويين التحرريين. كما أشعلوا الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 ثم العدوان الإسرائيلي الأول على جنوب لبنان عام 1978 وكذلك الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، من أجل الضغط على سورية باعتبارها الشقيقة الأكبر والأقرب إلى لبنان، بهدف إلهائها وإشغالها عن قضيتها الأساسية وهي تحرير الأرض المغتصبة واستعادة الحقوق المسلوبة من قبل الاحتلال الإسرائيلي وداعميه في الغرب، لكنها قاومت كل هذه الضغوط والتحديات وانتصرت في النهاية بفعل الإرادة الصلبة التي أرستها قيم ثورة آذار، ومن يقرأ بعين موضوعية محايدة ما حققته هذه الثورة المباركة سينظر إليها بكل إعجاب وفخر، ولا سيما أنها أصبحت مدرسة حقيقية لكل من يريد أن ينهض بشعبه وبلده إلى مصاف الدول والأمم والشعوب الراقية والمتحضرة. وعند الحديث عن ثورة آذار المجيدة لا بد للمرء أن يجري مقارنة ــ ولو بشكل غير مباشر ــ بينها وبين ما أطلق عليه زوراً وتضليلاً مسمى (الثورة) عام 2011، حيث يقف المرء عاجزاً عن الإتيان بمنجز واحد حققته هذه الكارثة الإنسانية بكل المقاييس على بلدنا خلال سنواتها العجاف، إلا إذا قام بمجاراة إعلام الفتنة والتحريض والتضليل في أكاذيبه وادعاءاته، واعتبر الدماء الغالية التي روت تراب سورية خلال السنوات التسع بفعل هذه الحرب الإرهابية القذرة ثمناً لما يصفه زوراً وبهتاناً (حرية) أو ما شاكل ذلك من شعارات زائفة واهية، ولكن عن أي حرية يتحدثون وقد حاول أولئك المجرمون القتلة والإرهابيون المرتزقة إدخال المجتمع السوري في عصور من الجاهلية والانحطاط والتخلف وتدمير الحضارة والتاريخ في سورية، إذ لم يتورع (بيادق) الحرية المزيفون من الجاهلين والمتطرفين والإرهابيين، مرتزقة الناتو والكيان الصهيوني ونظام أردوغان عن القيام بأعمال الذبح والحرق والاغتصاب وانتهاك المحرمات والمقدسات في سبيل خدمة أغراض مشغليهم من دول وجهات معتدية وطامعة بخيرات بلدنا، ولو سلمنا بما تبثه قنوات الفتنة والتحريض بأن التخريب والتدمير المتعمد والممنهج الذي جرى في سورية على يد هؤلاء الإرهابيين التكفيريين لمؤسسات الدولة وممتلكات الشعب السوري وإنجازاته هو (ثورة) لكان في ذلك ظلم كبير لثورة الثامن من آذار المجيدة وهي التي أرست دعائم الاستقلال والسيادة والكرامة الوطنية في سورية، بينما ارتهن أولئك المجرمون والقتلة للأجنبي وقاموا ببيع سيادتهم الوطنية لأعداء الأمة من صهاينة وأميركيين وأتراك وفرنسيين وبريطانيين وغيرهم..؟! ولعل السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم كيف يمكن اعتبار ما جرى ويجري في سورية على يد هؤلاء الإرهابيين من قتل وتخريب وإرهاب وعمالة للأجنبي (ثورة) وهم كانوا أداة رخيصة بيد النظام التركي والكيان الصهيوني وكل من يتحالف معهما من قوى الاستعمار الغربي ومشيخات التخلف العربية، فارتكبوا أبشع الجرائم بحق الشعب السوري ودمروا ممتلكاته والبنية التحتية لمعظم مؤسسات الدولة التي أرستها ثورة آذار المجيدة والحركة التصحيحية المباركة. وكيف يمكن تصديق أن مرتزقة هذه التنظيمات الإرهابية المعدلة وراثياً والمصنعة في أقبية الاستخبارات الأجنبية هم دعاة (إصلاح وسيادة وحرية وديمقراطية وكرامة وحقوق إنسان)، إذا كان داعموهم ورعاتهم يجاهرون بتبرؤهم من هذه القيم ويعتبرونها بدعة وضلالة وخروج عن طاعة (ولي)الأمر..؟! لعله من الضروري طرح هذه الأسئلة في كل يوم وتذكير كل من يهمه الأمر بأن سحابة سوداء أو زوبعة لا يمكن أن تصنع(الربيع)، وأما الحرية فيصنعها الأحرار فقط لا العبيد والمرتزقة، والسيادة يحميها السادة ولا يحميها العملاء والمأجورون، فشتان ما بين الثورة التي تربينا على أخلاقها وقيمها وبين مسمى (الثورة) المزعومة التي أشاعت كل هذا القتل والخراب والفوضى وسفكت كل هذه الدماء البريئة وشرعت أبواب الوطن أمام الغزاة والطامعين. |
|