|
دين ودنيا ورصدتُ أسس أحكامي السابقة, والتقيتُ بأناس عظام ابتلعهم النسيان أو كاد, وافتقدتُ طريقة حياة أقرب ما تكون إلى البساطة, وأبعد ما تكون عن تعقيدات هذا العصر. لن أدعي أن كل ما فيكَ هو الجمال بعينه أيها الماضي, لكن من الحماقة أن أغمطكَ حقكَ فأتقاعس عن تصوير مافيكَ من سحر وجمال, أو أن أتردد في تبجيل ما قدمْتهُ من خير للأجيال. وعندما وضعت عنوان مقالي (دعوة لقراءة تاريخ دمشق), نشب في خاطري أكثر من تساؤل: لماذا تاريخ دمشق, والدنيا اليوم تقوم ولا تكاد تقعد? وهل خلا وفاضنا من الحديث حول مستجدات الكارثة الاقتصادية التي أنتجها العالم الرأسمالي بفلسفته الجشعة القائمة على استلاب كرامة الإنسان; أقول: هل خلا وفاضنا من الحديث عن مأساة الساعة لنقوم بنبش تراث الأمة بالحديث عن تاريخ دمشق واستدعائه من جديد? أم هل في الحديث عن دمشق ما يمكن أن يثري واقعنا ويساعد في عملية بناء هذه الأمة, ويعيد (تنشيط) ذاكرتنا الجمعية الإيجابية? أقول: إن حركة التطوير والإصلاح والتحديث التي يشهدها بلدنا لا يمكن لها أن تقوم على ساق من غير معرفة دقيقة لتاريخ هذا البلد تشمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والعمرانية, ودراسة الأسس التي كان يبنى عليها القرار السياسي والاقتصادي والعسكري, وتأثير ذلك على إنتاج عقد اجتماعي فريد من نوعه ساعد على تشكيل بنية النسيج الاجتماعي المتين الذي جمع كافة أطياف الأمة المتباينة دينياً وثقافياً وعرقياً. ورغم أني أتوجس خيفة من الوافدين إلى بلدي تحت غطاء الدراسات الاستشراقية, وحب الشرق, والافتتان بابن عربي, والحلاج, ودراويش المولوية, والانكباب على دراسة الموروث الثقافي والشعبي, ذلك أننا تعلمنا من التاريخ - وليس من مجرد المخاوف والتوجسات- دروساً توجب إعادة النظر بمآربهم ونواياهم ومؤلفاتهم, فلطالما أميط اللثام عن وجوه كثير منهم وهم يدبِّرون لغزو هذه الأمة ثقافياً واقتصادياً وجغرافياً, فإن كل ذلك لا يمنعني من الإشادة بالجهود المبذولة من قبل بعض العاملين في الدراسات الاستشراقية في إنارة تاريخ هذا البلد حين عزَّ فيها وجود علماء صادقين كابن إسحاق, وابن جرير الطبري, وابن الأثير, والمقريزي, وابن كثير, وابن عساكر, والقلانسي, وسبط ابن الجوزي, واليونيني, وابن العديم, وفي مدة كادت أن تخلو من المؤرخين, حيث اضطرتنا للاستعانة بمدونة الحلاق (البديري) في مدينة دمشق لنتعرف على ما كان يجري فيها إبَّان الحكم العثماني في القرن الثامن عشر. وخير مثال نسوقه على أهمية الدور الذي لعبته بعض الدراسات الاستشراقية لملء الفجوات التاريخية التي لم تتناولها أقلام المؤرخين العرب والمسلمين بالبحث والتدوين, الدراسة التحليلية - التركيبية للمستشرقة الفرنسية الدكتورة بريجيت مارينو (Brigitte Marino), الصادر عام 2000 تحت عنوان (حي الميدان في العصر العثماني). ولقد أدركت من خلال دراستي لهذا البحث المتميز مغزى المصطلح الذي أطلقه الدكتور محمد أرغون: أركيولوجيا (حفريات) المعرفة. وتبين لي أن الباحث في تاريخ أمة من الأمم يمكنه - من خلال آليات محددة في الحفريات المعرفية والبحث العلمي- التوصل إلى إعادة استنطاق التاريخ, على نسق ما قامت به (مارينو) بجهدها الموصول المشكور, حيث تمكنت من إعادة رسم وهيكلة محلة الميدان من جديد بدءا ً من أول لبنة بنيت فيه منذ بدايات القرن الثالث عشر, حين كانت درباً يبدأ بباب المصلى وينتهي بما اصطلح على تسميته:(بوابة الله) أو: (بوابة مصر). لقد استطاعت الباحثة ( بريجيت مارينو), ببراعة, نبش أغلب السجلات العثمانية المتعلقة بوثائق محاكم دمشق الشرعية والمعاملات العقارية, والقيام بتحليلات منطقية ورياضية للوقائع المبثوثة فيها, مكنتها في نهاية المطاف من رسم صور حيَّة تنبض بالحركة عن محلة الميدان بواقعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والديني أثناء مدة الحكم العثماني. وهنا لا بد لي من التنويه إلى أن قيمة عمل (مارينو) وأمثالها من الباحثين المستشرقين أمثال ج. سوفاجيه (J. Sauvaget ) و ج. باسكوال (J. Pascual) من حيث الرصانة ومنهجية البحث تتضح لنا بموازنتها مع أبحاث بعض الكتاب المعاصرين عن مدينة دمشق وتاريخها, ومنهم الأستاذ نصر الدين البحرة : (دمشق في الأربعينات), والأستاذ منير كيَّال:(يا شام- دمشق ياسمينة التاريخ), والدكتور أحمد إيبش, وعصام الحجار :( دمشق الشام:قصة 9000 سنة من الحضارة), والدكتور عبد القادر الريحاوي: (دمشق: تراثها ومعالمها التاريخية), و للأستاذ وليد الحجار في عمله الروائي: ( رحلة النيلوفر- آخر الأمويين), وكتاب آخرين لا يتسع المجال للتنويه عنهم. وعلى أية حال فإن ما نحن بصدده ليس تقويماً للمادة التاريخية العلمية التي قدمها هذا الفريق أو ذاك, بمقدار ماهي دعوة صادقة لأبناء هذا الوطن للتعرف على تاريخ دمشق وتاريخ سورية بهدف الاستفادة من دروس هذا التاريخ التليد في واقعنا المعاش. إن ما يميز دمشق تاريخياً هو استمرارها عبر آلاف السنين رغم ما حلَّ بها من كوارث ونكبات. ويبدو لي أن المدن لا تموت بسبب ما يحل بها من دمار, ولكنها تؤول إلى الزوال إذا ماتوقف ساكنوها عن عشقها, والأمة التي لا تقرأ تاريخها و لا تعرف سيرة أجدادها تحرم نفسها من الاستفادة من دروس التاريخ وعبر الماضي, وهي أمة منقطعة جذورها آيلة إلى سقوط. ومن هذا المنطلق, فإن قراءة تاريخ دمشق وتاريخ سورية يصبح أمراً لامندوحة عنه في ظل ما نرنو إليه من تطوير وتحديث من ناحية, ومايجابهنا من شراسة هجوم و خبث مكائد تطل برأسها على هذا البلد الصامد من ناحية أخرى. |
|