|
دين ودنيا إنها نصوص من القرآن الكريم نزلت على قلب النبي الكريم خلال معركة أحد قبل 1427 عاماً بالتمام والكمال، ولكن أدنى تأمل فيها سيحملك على الاعتقاد بأن القرآن الكريم كأنما تنزل للتو ليكشف منازل المجاهدين وفضائح المنافقين. كان المشركون من قريش قرروا غزو المدينة، وكان المطلوب بوضوح هو إنهاء رسالة التوحيد وتسليم خيرات المدينة للجيش الغازي، وكان الوهن قد تسرب إلى بعض النفوس، ورأت فيما تعرضه قريش خياراً جيداً فالعين لا تقاوم المخرز، والسلام سيعود على المدينة باللبن والعسل! وكان النبي أمام خيارين: أن يدافع عن المدينة من داخلها أو أن يترك أرض المدينة ويقاوم خارج المدينة المنورة، ومع أنه كان يرى أن الأفضل هو البقاء في المدينة ومواجهة المشركين في قتال شوارع نظراً لتفوق المشركين عدداً وعدة، ولكنه اختار أن يستشير اصحابه في أمر الخروج، وكان معظمهم قد عانى الأمرين من ظلم قريش وكانت سياط قريش التي ألهبت ظهورهم تفعل فعلها في شباب الصحابة، وكانت الأخبار التي تتوارد من مكة عن الراسفين في الحديد من المستضعفين تبعث إرادة المقاومة والجهاد في نفوس الصحابة للدفاع عن الأسرى المقهورين، وهكذا فقد غلبت أصوات الشباب التي كانت ترى وجوب منازلتهم خارج المدينة وقال حمزة بصرامة: والذي بعثك بالحق لا أبرح حتى أقاتلهم بسيفي هذا خارج المدينة!! مع أن قرار النبي كان الحرب داخل المدينة ولكنه في موقف ديمقراطي شجاع استجاب لرأي الشباب ولبس لامة الحرب وأمرهم بالاستعداد للمعركة خارج المدينة. رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول كان يرى القعود في المدينة ومع أن دوافعه لهذا القعود لم تكن بدافع الحكمة أو التكتيك الحربي بل كان بدافع التخاذل والقعود، ولكن رأيه جاء مطابقاً لرأي النبي الكريم الذي اختار المكوث في المدينة لتأمين حرب شوارع ضد الفريق المهاجم، وحين اختار النبي الكريم أن يسير في إرادة الأكثرية من الشباب خرج ابن سلول مغضباً وقال: أطاع الصبيان وعصاني!!! أطاع الصبيان وعصاني!! والله لا أدري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس!! وانخذل ابن سلول ومعه ثلاثمائة رجل من أصحابه! قال ابن سلول تماماً ما سمعناه إبان محنة غزة: لماذا تقاومون قوماً لديهم جيوش جرارة وتدعمهم أمريكا، ولو أطعتمونا في خيار المفاوضات والسلام لما متم ولا قتلتم!! (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) والكفر الذي تشير إليه الآية هنا هو موقف سياسي وليس موقفاً اعتقادياً، فالكافر هنا كان بين المصلين يطيل السجود والركوع ولكنه جبن أن يقف موقف الكرامة مع أهل الثبات. حين حم قدر احد وسقط الشهداء من الصحابة مجندلين في الأرض كان من الواضح أن ابن سلول قد نجا بريشه لم يمسسه سوء، أما حمزة فقد استشهد وأكلت هند آكلة الأكباد من كبده، ولكن بعد أربعة عشر قرناً أين مكان الرجلين في ضمير التاريخ؟ وهل يستوي من عاش للمبادئ مع من عاش في سبيل الأهواء والفواحش؟ مضى معتب بن قشير والجد بن قيس ساخرين من قرار المقاومة بالصمود والمواجهة، وغمزا من الراية التي حملها مصعب بن عمير يوم أحد وقال بعضهم لبعض: إنها مسألة ساعات وتستكمل قريش تأديب هؤلاء المشاغبين الذين لا يؤمنون بالسلام والمفاوضات، ودون شك فإن المنافقين زودوا قريشاً بأسماء المقاومين البواسل من أولي البأس. انتهت المعركة ونجا الجد بن قيس ومعتب بن قشير بجلديهما أما مصعب فقد تجندل شهيداً في الأرض! وقال الصحابة يا رسول الله!! ألا ترى لمصعب!! لم نجد له إلا ثوباً واحداً إذا غطينا رأسه بدت رجلاه وإن غطينا رجليه بدا رأسه!! وبكى النبي الكريم وقال: لقد رأيته بمكة وما بها شاب أحسن منه لمة ولا أكرم منه ثوباً، واليوم لا نجد ما يستر بدنه!! انظروا ماذا فعل به حب الله ورسوله!! مات مصعب وعاش معتب ولكن أين مكان الرجلين في ضمير التاريخ؟ وهل كان المنافق أعمق حكمة من المقاوم الذي دفع حياته وجهاده ودمه في سبيل رسالته؟ مات صلاح الدين ومات ابن العلقمي، ولكن أين مكان الرجلين في ضمير التاريخ؟ وتمضي الآيات في سبيلها شاهداً ناطقاً على سلوك المنافقين خلال عدوان غزة حين يقول القرآن الكريم: وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنون، وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان!! وفي مشهد آخر من الفضيحة يخبرك القرآن بطبيعة اللقاءات السرية التي جرت بينهم وبين اعداء الأمة: يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون وكأنما يقدم لك هنا تقريراً مباشراً من أحد أقرب المراسلين للحدث في غزة: الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا !! قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين! ولكن ذلك لم يكن آخر المطاف فقد مضت الآيات إلى أبعد من ذلك وراحت تكشف عن مقاربات في فقه الهوان وفقه الصمود:الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم. وفي صورة واضحة من لقاءات الذل التي يدعى إليها الفريق العربي في واشنطن ويشرحها القرآن الكريم: بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعأً وفي خطاب مباشر للفريق العربي المتمسك بالاتفاقيات المبرمة مع الأمريكيين والصهاينة ضد مصالح شعبه وأهله تقول الآيات: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً؟ وفي توجيه صارم للفريق العربي الملتزم بالبرنامج الأمريكي تقول الآيات: إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين. مات حمزة وعاش ابن سلول، مات مصعب وعاش معتب، مات يحيى وعاش هيرودس، واستشهد ياسر وسمية وعاش أبو جهل وأم أنمار، ولكن أين مكان كل منهم في ضمير التاريخ؟ وهل يتمنى الشهداء مكان قاتليهم لينعموا بشهور إضافية من الحياة؟ وإذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبــــاناً قد يكون لديك ألف شك في البعث بعد الموت، والمشكلة ان من ذهبوا لا يرجعون إلينا ليخبرونا عما شاهدوه في عالم الدينونة الأبدي، ولكن مشهد صفحة التاريخ بالغ التأثير والعبرة، وحين يقول التاريخ كلمته: وكم مصانعة الأعداء تخدعهم وكم يقولون بعد العمر وا أسفا سيعلمون وبعض العلم كارثة إذا تمرد وجه الدهر واتنصفا وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون!! |
|