|
رسم بالكلمات وإشارات المرور متثاقلة كسولة تومئ للسيارات أن تقترب بجدية الشتاء القادم من الغرب البعيد. أخذ يطوي الشوارع بحثاً عن شيء ما, يسند ظهره إلى إحدى مواقف الحافلات, يتدثر بمعطفه الأسود الثقيل كلما هبت رياح غربية باردة, تمر حافلة من أمامه, تقف دون أن يشير إليها تنتظر قليلاً وينظر إليها مستغرباً, ثم تمضي حين تمل الانتظار.
يتابع مسيره بحركات بطيئة, يقف عند إحدى محلات بيع المعجنات, يطلب المحمّرة. يلتهمها ساخنة, يدفع للبائع ويمضي. المدينة خالية إلا من مارة ماضين بكافة الاتجاهات, وهم قليلون في هذا الوقت, وكم هي كثيرة تلك الغيوم الداكنة المتجهة بعنفوان إلى قعر المدينة الحزينة. لا ملجأ يلجأ إليه, فقدت البيوت عنده طعم الدفء والسكينة, لا دفء يمضي إليه. اعترضته لوحة إعلانية كبيرة تدعو الناس لحضور عرض مسرحي, لم يهتم باسمه بل جذبته صورتها.. تلك التي كانت طالبة عنده في المعهد المسرحي حين كان أستاذاً فيه منذ سنين. تذكر كم كان غبياً حين فكر بإقامة علاقة معها, هي تحترمه لسنه ومقامه, وهو يبهره جمالها الطفولي الزائد. الآن تقفز في مخيلته ذكريات جاءت من عهده حين كان أستاذاً في المعهد, فراح يتألم من جديد, ودمعة حائرة كادت تخرج من عينيه, لولا أن حافلة كبيرة قطعت عليه سلسلة الذكريات فحجبت الإعلان ومن معه, وتذكر أنه في موطنه حيث الحافلات تقطع الذكريات أيضاً. رجع يمضي بلا هدف يبحث عن ذالك الشيء, شيء أضاعه في غربته حين سافر بلا إذن من مدينته إلى بلاد توهم أنها تحترم أستاذاً وفناناً مثله, فما أن وصل حتى قذفته تلك المدينة إلى قارعة الطرق حيث المعنى الآخر للتسول. موسيقيون ورسامون وممثلو مونولوج يرتزقون في الشوارع المكتظة بالمارة, وحيث الشحاذون ينامون في زوايا الأزقة وأمامهم زجاجات الجعة الفارغة. هنا لا يجد أولئك, بل يجد بائعي الفستق المدخن أو الفول النابت أو حتى البليلة, يرتزقون من المارة أيضاً على عادتهم. حلّ الليل دون قمر هذه المرة, وبدأ المطر يهطل أكثر جنوناً. التجأ إلى إحدى البنايات التي لم يكتمل بناؤها بعد. تدثر بمعطفه, أشعل سيجارة, وراح يبكي موته. |
|