|
ثقافة هو ما امتلكه دوماً المسرحي والشاعر هارولد بنتر الذي جفت أوراق عمره فسقطت أرضاً وسقطت معها قشرة الروح «الجسد» جسد اختزل يوماً بأن كان فصار صوتاً مجلجلاً رعداً في وجه كل ظلم أينما وجد ولاح هارولد بنتر صاحب ذاك الصوت المباشر آمن بأن أكثر الوسائل تجرداً في التعبير عن الاحتجاج هي الوجه الآخر للرسالة المباشرة ومن هنا لانستغرب أن يقال فيه: كان عبثياً في المسرح وملتزماً في الحياة. وفي الحالين كان متمرداً محتجاً كأجمل ما يكون التمرد والاحتجاج تمرد جمالياً واحتج سياسياً احتجاجاً مباشراً ولهذا كان صاحب رسالة إنسانية مزدوجة الأسلوب . توفي بعد صراع مع مرض سرطان الحنجرة في ليلة عيد الميلاد الماضية 2008م، ولد بنتر في العاشر من تشرين الأول عام 1930م في حي شعبي شرق لندن لأبوين يهوديين وجاءت شهرته بعد كتابته مسرحيته «الحارس» وأصبح أكثر مسرحي بريطاني تأثيراً بأبناء جيله. نال جائزة نوبل عام 2005م عن أعماله المسرحية من بينها «حفل عيد الميلاد» و«العودة إلى الوطن» وقد اعتبر النقاد المسرحيتين من أجمل الإنتاج الأدبي في النصف الثاني من القرن الماضي، تنتمي هذه الأعمال إلى مسرح العبث وهو مدرسة مسرحية ظهرت في أوروبا منتصف خمسينيات القرن العشرين ومن أهم أعلامها يوجين يونسكو وصموئيل بيكيت. بسبب انتمائه لهذا النوع المسرحي طغى الغموض على مسرحياته فليس هناك تفسير منطقي للأحداث أو حتى لظهور بعض الشخصيات على الرغم من اعتمادها أساس محاكاة الواقع، ولكنها ليست محاكاة بالمعنى التقليدي المعتاد بالإضافة إلى غياب الحوار التقليدي كأسلوبية تدل على الاغتراب الذي يعاني منه مطلق إنسان. بنتر الذي اختار أن يوصل رسالة غير مباشرة جمالياً «فنياً و أدبياً» أوصلها أكثر من مباشرة وصريحة من خلال حضوره، مواقفه وأقواله السياسية. لم يفوت أي مناسبة إلا واعترض بها على سياسة أميركا، طرد مرة من احتفال في السفارة الأميركية في تركيا كان قد أقيم على شرف الكاتب آرثر ميلر، أثناء الحفل بدأ بنتر حديثه عما سمعه من تعذيب للمعتقلين السياسيين فما كان من السفير الأميركي إلا أن طرده فخرج ميلر تضامناً معه. عارض مشاركة بلاده في غزو أفغانستان وعارض الحرب على العراق، نعت بوش بالمجرم الجماعي ووصف طوني بلير بالأبله.. بعدما كان خلال فترة تسعينيات القرن المنصرم يشارك في تظاهرات ضد فرض عقوبات دولية على العراق، ووصف الغزو الأميركي على هذا البلد بالعمل اللصوصي وشبه الولايات المتحدة بألمانيا النازية وقال إنها دولة تديرها عصبة من المجرمين المجانين. عرف بمناصرته للقضية الفلسطينية، في الحفل الأخير الذي نظم في لندن تكريماً لمحمود درويش بعث قصيدة قرئت بالنيابة عنه، لم يتمكن من السفر إلى استوكهولم لأسباب صحية بعد أن منحته الأكاديمية السويدية جائزة نوبل ومع هذا استثمر فرصة إلقاء خطاب لمهاجمة الإدارة الأميركية. قال في حفل تسلمه جائزة الشاعر ولفرد أوين «كيف كان لولفرد أوين أن يرى احتلال العراق؟ عمل شقاة... إنه إجراء عسكري متعمد مبني على سلسلة أكاذيب وأكاذيب». وتابع: «ماذا يرى بوش وبلير حين ينظران إلى صورتيهما في المرآة؟ أعتقد أن ولفرد أوين سيشاركنا شعورنا بالاحتقار والاشمئزاز والرغبة في التقيؤ من أقوال وأفعال الحكومتين الأميركية والبريطانية». كتب بنتر خلال حياته أكثر من ثلاثين عملاً مسرحياً وشارك بكتابة العديد من سيناريوهات الأفلام .. أما بنتر الشاعر فتميز باستخدامه اللهجة الشعبية بعد غربلتها واكتشاف شاعريتها. من قصائده ما كتب في كانون الثاني عام 2003م بعنوان «اللهم بارك أميركا» هاهم ينطلقون من جديد اليانكي في استعراضهم المدرع يصدحون بأناشيد الفرح وهم يخبّون على امتداد العالم الكبير يسبحون بحمد إله أميركا المزاريب سدت بالموتى يتدحرج رأسك على الرمال رأسك بركة في القاذورات رأسك لطخة في التراب كلَّت عيناك وأنفك لم يعد يشم سوى رائحة الموتى وهواء الموتى عابق تماماً برائحة إله أميركا |
|