تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


النص الفائق وموت المؤلف

ثقافة
الثلاثاء 21-7-2015
ديب علي حسن

ما كان بالامس امرا غير مستساغ , ولامقبولا في الادب والنقد والفكر , غدا اليوم امرا واقعا , ولم يعد ينظر اليه على انه من الموبقات او الخطايا , لا , بل صار امرا حقيقيا وواقعا , والنص المحمي المسيج بحقوق المبدع او المؤلف صار نصا مفتوحا , عابرا لكل الحدود والاتجاهات ,

فالعرب قديما كانوا اذا وقعوا على توارد فكرة بين شاعر واخر يقولون باحثين عن تفسير له: قد يقع الحافر على الحافر , بمعنى آخر ان الفكرة تكون عند هذا وذاك, ولكنهم وصلوا فيما بعد الى توصيف الامر بالسرقة الادبية , ولهم في ذلك الكثير من الكتب والدراسات.‏

وثمة من وقف وقته وجهده لتتبع ما اسموه انتحالا , اذ يعمد الشاعر الى اخذ فكرة من آخر ويعيد صياغتها , وقد عابوا الامر على شعراء كثيرين , ومع تطور الامر والتلاقح الثقافي والفكري بين الامم والشعوب نشأ ما سمي الادب المقارن الذي تتبع الخطوط والقواسم المشتركة بين الاداب العالمية , ومدى تلاقحها واستلهامها من بعضها البعض , وهنا يمكن الحديث عن رسالة الغفران للمعري وكيف تم استلهامها من قبل دانتي كما يقول الدارسون , بينما يرى اخرون ان الامر لايعدو كونه تماثلا فكريا وابداعيا , وفي هذا الاطار يشار الى ان بعض الدراسات تذهب الى الادعاء ان سرفانتس استمد حكايته الاشهر : دون كيشوت من تاريخ المغرب العربي وتراثه الشعبي.‏

هذا يقودنا الى القول: ان الكتاب المطبوع كان محميا وحافظا للابداع , فما من شاعر او روائي نشر كتابا او عملا الا وزين الصفحة الاولى بجملة مشهورة: حقوق الطبع والنشر محفوظة للمؤلف , والان توضع عبارة : لايجوز الاقتباس او التخزين او استرجاع النص الا بموافقة مسبقة من الناشر , او المؤلف , وبعض الاخرين يذهبون الى حد تحريم الاقتباس والاستشهاد بشيء من الكتاب او المجموعة الشعرية , او العمل الفكري , هذا التحصين الذي هو جزء من عملية حماية غير النص الذي اصبح الان مفتوحا , والمؤلف المعروف والمشار اليه بالبنان , غير المؤلف الجماعي في هذا اليوم , فلم يعد بإمكاننا القول: انك لو عثرت على نص لنزار قباني غير موقع باسمه , لعرفت انه يحمل بصماته, وحملته اليه.‏

في عصر الوصول كما اسماه جيريمي ريفكين تغيرت الامور وانقلبت المعايير تماما , فالمؤلف الواحد مات, والنص الجامد توقف , انها نصوص الشابكة او النت, او كما يسميها هو: النصوص الفائقة.‏

النص المفتوح‏

يرى ريفكين في كتابه الانف الذكر (عصر الوصول) ان الاتصالات الالكترونية قامت بتنظيم المعرفة بطريقة تختلف عما كانت عليه تكنولوجيا الطباعة تفعله , والنصوص الفائقة تحل محل طريقة ادراج المراجع المحدودة والضيقة والمستخدمة في الطباعة , ان كتابا _ كما يقول _ متكاملا ذا عدد محدد من الحقائق يعطي المجال لحقل لا حدود له من المعلومات , اذ ان الهوامش والمراجع تتوسع الى ما لا نهاية خالقة نصوصا ثانوية وما وراء النصوص.‏

ويرى ريفكين ان الكتاب المطبوع ذو طبيعة مستقيمة ومقيدة , وراسخة , نرى النصوص الفائقة ترابطية ويحتمل ان لاحدود لها , والكتاب المطبوع حصري بطبيعته وعلائقي في هيئته وبكلمات اخرى لها بداية ولها نهاية , وهي متكاملة , اما النص الفائق فليس له بداية , او نهاية واضحتين , بل هناك نقطة بدء فقط يقوم المستخدمون من خلالها بالوصل بين المواد ذات العلاقة , وهي تعيد التشكل دائما ولا تتكامل ابدا , ان الكتاب المطبوع هو منتوج , في حين ان النص الفائق هو معالجة , والاول يلائم التملك طويل المدى , بينما تكون الطريق المثلى للوصول الى الاخير على اساس لحظة بلحظتها.‏

بلا ملامح‏

ويلاحظ ريفكين ان النص الفائق يقوض واحدة من المميزات الرئيسية للوعي الطباعي , وهي فكرة المؤلف ذي شخصية مميزة يمتلك افكاره وكلماته الشخصية , لكن النص الفائق يصيب مفهوم التأليف التقليدي بالضبابية , وسبب ذلك هو ان هذا الوسط قائم على الشمولية والارتباطية بدل الحصرية والاستقلالية , ولهذا نرى ان الحالة الغالبة هي عدم وجود حدود واضحة تفصل مساهمة شخص عن الثاني , والناس يقومون وبصورة مستمرة باقتطاع او اعادة دمج او تحرير او حذف مواد تم الوصول اليها من مصادر واوساط اخرى لا تحصى , وقد يقومون بدمجها بمواد اخرى من اعدادهم , وارسالها الى عقد اخرى في الشبكات المختلفة التي يرتبطون بها , وعندما تصبح المواد من كافة انواعها جزءا من عملية سائرة مفتوحة النهاية , تشمل عدة جهات وموزعة عبر الزمان والمكان , بدل ان تكون منتوجا متكاملا ناتجا عن جهود خلاقة لشخص واحد , يصبح حصر الملكية صعبا احيانا.‏

وهذه الحال كما يقول رولان بارت يقود الى ما سمي: موت المؤلف , وبذلك تموت معه مفاهيم الحصرية , والاستقلالية التي كانت من الاهمية بمكان في تأطير كل من العقل الحديث وعالم التملك.‏

اما ميشيل هايم فيرى انه في هذه الحال تتضاءل حرية التعبير الفردي، ولذا فإن الاعتراف بالذات الخاصة للمؤلف المبدع يتضاءل ايضا.‏

هوية مشوهة‏

مالم يقله ريفكين في حديثه عن النص الفائق انه صار نصا مسروقا , بلا هوية , بلا عنوان ولامعنى واضح , بل كما يقال بالعامية كما طبيخ (....) فهو يحول الكتاب او النص الابداعي الى مجرد نبضة تائهة لامعنى لها , فلاهوية , بل قصاصات ومسوخ تتراكم قرب بعضها البعض , لا احد يعرف ابا شرعيا لها , المستفيد الوحيد من ذلك كله هو من يروج لان يكون الجميع متساوين كأنهم رؤوس البصل , ليس في العدالة , لا , انما في التدجين , وان يكونوا خرافا طيعة تساق الى المذبح الذي هو رأس المال وتحويلهم الى سلع عليها دمغة المنتج فقط.‏

النص الفائق سيصبح فيما بعد نصا مغلقا , كتابا مطبوعا , لكن ليس لك , انما لمن اخترع الفضاء , وبذلك تذوب الهويات , وتضيع القوميات , وتفقد الروح الانسانية والخصوصية لصالح جهة واحدة , بمعنى آخر ستفقد شهرتك , صوتك , بيئتك , حتى انت لن تعرف نفسك , هذا ناهيك على انه ركام من رماد الكلمات , ولا موثوقية له , انما كثيب من الرمل يتراكم وفجأة قد يقرر صاحب الربع المملوء ان يذروه الى مكان آخر.‏

وما تنسجه يداك على صفحات التواصل الاجتماعي , وتنشره على انه ابداع يخصك , لا تستغرب ان ترى غيرك قد سطا عليه واخذه على انه من نتاجه , فهو مال سائب في صحراء لا مجال لحصرها , وقد يمر دهر دون ان تعرف من هو السارق , لذلك هو النص الفائق في كل شيء الا الابداع.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية