|
ثقافة هل يمكن أن يكون أليفاً أو عدائياً? هل يمارس سلطة واستبداداً علينا? هل هو بحاجة الى اثبات وجوده كما سعى ارسطو وابن سينا ليردا على نفاة المكان? أم انه الهيولى او الصورة او الخلاء او النهاية المحيطة بالجسم الطبيعي كما اقترح ابن رشد? إن المكان لا يتأتى إلا في علاقته مع بعض المفاهيم المتاخمة له مثل الحركة والاتصال والزمان ولولا وجود حركة ( النقلة) لما وجد المكان كما يرى الفلاسفة. يطلق المكان بمعنيين : فيقال (مكان ) لشيء يكون فيه الجسم فيحيط به ويقال ( مكان) لشيء يعتمد عليه الجسم فيستقر عليه . المكان -الجغرافيا - الذاكرة- الانتماء يلعب المكان دوراً هاماً في تشكيل وعي الانسان فهو البيت , الارض , الأم , الوطن, الذكريات, الطفولة, هو الماضي الذي نعشق لأننا في النهاية حصيلة متراكمة لحضوره وذاكرة جماعية لشعب ما . لطالما كان العرب قبائل تحمل نزوعا وتوقاً نحو الرحيل ولذا كان نزوعها نحو الحنين الى الامكنةَ! ولنسأل: هل كان الفضول العلمي بحثا عن امكنة جديدة وراء الاكتشافات الجغرافية العظيمة منذ فاسكو دي غاما الى الكابتن كوك أم انها روح الهيمنة على المكان ? يتذكر الفلسطينيون عام 1948 بوصفه عام النكبة-كما يرى ادوار سعيد - اذ رحل 750 ألف شخص يمثلون ثلثي السكان وازيل مجتمع كامل, اما بالنسبة للاسرائيلين وليهود العالم فقد كانت سنة 1998 الذكرى الخمسين لاستقلال اسرائيل وتأسيسها ويقول سعيد: لكي يصبح شعب ما أمة ينبغي عليه ان يجعل من نفسه اكثر من مجرد مجموعة من القبائل او المنظمات , لا بد من تاريخ جمعي: وهو ما يتحقق في المكان - فلسطين. بيت لتكثيف الزمن قالوا المكان بيت لتكثيف الزمن فما هي وظيفته وهل يمارس سلطة على أشيائه وأحيائه? وهل يتنافى ذلك مع حرية الانسان ? يرد الناقد الدكتور نضال الصالح بقوله: أجل المكان بيت لتكثيف الزمن ولكن لا وظيفة واحدة له فحسب, بل وظائف, منها دوره في تشكيل الوعي الذي غالباً ما يتحدد بحدود المكان الذي ينتمي اليه الانسان, ثم الاحساس الرهيف بحركة الزمن التي غالباً ما تتحدد أيضا بحركة الانسان في المكان,المكان الواحد لا الامكنة فالمكان ليس حيزاً جغرافياً فحسب, بل هو فضاء مفعم بالحياة ايضاً هو حيز له ابعاده وتخومه المحدودة من جهة وهو من جهة ثانية فضاء مفتوح على أبعاد وتخوم غير ثابتة وتكاد تكون غير نهائية, وهو من جهة ثالثة وليست اخيرة فضاء فاعل تنهض بينه وبين سواه من مفردات الواقع علاقات جدل متعددة. أما فيما يتصل بالسلطة التي يمارسها على الأشياء والاشخاص فهي سلطة سالبة حينما تتسم تلك الاخيرة-أي الاشياء والاشخاص-بالثبات والعطالة أي عندما تكون منفعلة به فحسب لا فاعلة فيه ايضا وهي سلطة خالقة حينما يفارق المكان معناه الجغرافي الضيق ويصبح فضاء للتجربة الانسانية بأشكالها وتجلياتها المختلفة وحينما يتخلى عن كونه حاضنة فحسب لتلك الاشياء والاشخاص ويتجلى بوصفه قوة دينامية محفزة على الحركة والتغيير, يمارس المكان استبدادا على الاشياء والاشخاص الثابتة انفعالياً أي التي تكتفي عادة بالتلقي لا بمساءلة ما حولها او ما يصدره الآخرون اليها من قيم ومفهومات وانماط وعي- اما الأشياء والاشخاص الحوارية فتتجاوز ذلك الى طرح الاسئلة دائما على مجمل ما يحيط بها او يحاول تعطيل ارادتها او نفي تلك الارادات . إن حرية الانسان رهن بالوعي الذي يمتلكه وهي واسعة وشاسعة وغير محدودة ولا هوامش لها عندما يكون الوعي نفسه واسعاً وشاسعاً وغير محدود ولا هوامش له وقبل ذلك كله نتاج نفسه لا نتاج سواه! زوال المكان الثقافي هل يمكن القول بزوال المكان الثقافي كمساحة خاصة بالكتابة والتفكير كفعلين ينتميان الى فضاء الجماعة?! يقول الدكتور خليل موسى كناقد للأدب الحديث وشاعر : لا بد من تعريف المكان الثقافي اولا وخاصة في النص الادبي فهو مساحة محددة من التضاريس تتضمن في فضاءاتها وتحولاتها العادات والتقاليد والموروثات المختلفة واللغة والطبيعة والانسان, والمكان يحدد الهوية في زمن محدد ايضا ولذلك فإن زوال المكان الثقافي لا يعني إلا امراً واحداً وهو هشاشة الامة التي تقيم في هذا المكان بكل ما تتوارثه وتبدعه وتنجزه ولذلك يسهل على الطارئ ان يغير بسهولة في مثل هذه الامكنة ولا يعني ذلك أبدا ان على الامة ان تغلق نوافذها على الآخر خوفاً على الهوية فهذا هو الموت المحتوم ولكن ذلك يعني ان المكان الثقافي او ثقافة الامكنة قوة ينبغي ان نحافظ عليها وبخاصة في زمن العولمة الذي نعيشه. المكان متحرك والثقافة متغيرة فالمكان يتنفس في فضاءات مختلفة وتتغير ثقافته بتغير الزمن وقد قال هيراقليط: (أنت لا تعبر النهر مرتين لأن انت لست أنت والماء ليس هو الماء) فالمقهى الذي يدير ثقافته الحكواتي قبل الحرب سلم هذه الثقافة للمذياع بعد ذلك ,ولذلك يمكننا ان نتحدث عن ثقافات المكان الواحد وتطورها وللمكان ماض وحاضر ومستقبل, ففي قصيدة( أم البروم) للسياب ماض وتتجلى ثقافته بالشعائر الجنائزية واحتفالات القبور والموت ولكن المقبرة غدت بعد ذلك مسرحا للرقص والعربدة فانتقلت ثقافتها الى الطرف المقابل وهكذا يمكن الحديث عن ثقافات دينية وسياسية واجتماعية للمكان الواحد. نحن اليوم في عصر الكتابة الجماعية, في عصر الفعل الجماعي ثقافة وتفكيراً . عصر موت المؤلف والتناص والحاسوب والانترنت وثقافة الاتصالات المختلفة فالنص يصنع النص , الموروث يتجدد من خلال هذه الجماعة والشجرة ذات الجذور العميقة تعيش طويلاً.. نعم هناك امكنة وشعوب زالت من التاريخ لأنها لا تحمل في ذاتها قوة التجديد وقانون الحياة . البقاء للأفضل والاقوى ولكن المكان الذي يحمل في ذاته بذور البقاء لا يخشى من زواله, قد يشيخ لحظة وينام اخرى ولكنه قادر على التجدد كالفينيق تماماً , الشعر العربي انتهى مع نهايات القرن الرابع ودخل طور الاحتضار لكنه تجدد بعد ذلك مع حركة الاحياء ثم نهض قوياً على ما نراه اليوم ولذلك انا متفائل بالنسبة الى المكان الثقافي العربي فهو لا بد ان يحافظ على بقائه ودوره في الحياة لأن جذوره عميقة ومتينة. المكان في الأدب أي دور للمكان في الادب وما دلالته وخاصة في الادب الفلسطيني? عن ذلك أجاب الروائي حسن حميد فقال:المكان في الادب ركن اساسي من أركان النص وعنصر جوهري من عناصره اذ لا يوجد نص مهم من دون مرجعية مكانية إلا فيما ندر, فالمكان داخل النص الادبي كتاب يقرأ الناقد والقارئ العادي فيه معطيات جديدة تضيف للنص دلالات معرفية تبين مصدرية النص كما تبدي مرجعيته وعندي ان المكان في النص الادبي بمنزلة الهوية له فما من دال على اجتماعية النص مثل المكان . أعرف انه من الممكن اقامة نص أدبي من دون توافره على عنصر المكان لكن الصحيح أيضاً أن هذا النص يصير من دون مرجعية, من دون اثر اجتماعي, أي من دون علاقة اجتماعية,المكان هو العلاقة الاجتماعية الدالة على هوية الاستعمار. المكان في النص الادبي الفلسطيني له معان اكثر دلالة واكثر بدواً من حيث الحضور المكاني في النص الادبي المكتوب في بيئات اجتماعية اخرى, بقولة اخرى, انه بسبب ظروف الشعب الفلسطيني الذي ضرب معيله الاول- الارض-أي المكان , صارت الدلالة المكانية الدلالة الاكثر اهمية في النص . لهذا فإن المكان في النص الادبي الفلسطيني يكاد يكون الشخصية الرئيسية او العنصر الجوهري فيه ذلك ان علوق الذات الفلسطينية بالمكان هو علوق من نفي قسراً وقهراً بعيداً عن حبيبته والمكان الفلسطيني , بعد التشظي , بعد النكبة الفلسطينية غدا مكانين اساسيين, الاول : المكان الاصلي او قل الطبيعي - أعني فلسطين - والثاني هو المكان الطارئ الاستثنائي أي المنفى الذي نشأ عن النكبة سواء أكان هذا المنفى داخل فلسطين-لوجود مخيمات في الضفة والقطاع- أو في خارجها. المكان الاول (فلسطين) مكان أشبه بالأم فهو مكان عاطفي محبوب له رتبة الحلم وهو مكان مولد للاشواق والحب الازلي والمكان الثاني (المنفى) مكان مكروه مذموم مقلق له رتبة اجتماعية متدنية لأنه مكان طارئ وبديل, معرفته الحق تذكر بمعرفة المكان الاصلي الحق ولذلك لا حديث في المخيمات - كأمكنة طارئة-إلا عن المكان الاول كالقرية والمدينة ومع ذلك للمكان الطارئ (المنفى) فضائل عديدة منها انه الحياض الجامع لأبناء فلسطين, حيث هيأ هذا المكان على صغره وكراهيته البادية المستمرة للفلسطينيين والعيش المشترك والحفاظ على العادات والاعراف والتقاليد والمعاني ايضا. والمكانان الاول (فلسطين) والثاني ( المنفى) في تحاور وتصاد ومناددة وهذا ما أكده النص الادبي الفلسطيني فالمكان الاول باق والمكان الثاني زائل وان ظل ( في المستقبل ) مكاناً يزار مثل الاماكن التاريخية. وبعد فالمكان في النص الادبي مدخل مهم لقراءتين اساسيتين يقدمهما الادب اعني القراءة السوسيولوجية للفرد في (دائرة أولى)والقراءه السوسيولوجية للمجتمع في (دائرة ثانية) و أي نص أدبي لا يتميز بخصوصية المكان وفعاليته كدت أقول مواره وحراكه, لا يمكن ان يتميز بهوية اجتماعية يرغب القارئ أياً كان مستواه في معرفتها واكتناه خصوصياتها. |
|