تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوتار ...الينبوع الإلهي

آراء
الأربعاء 28 /3/2007
ياسين رفاعية

ليست العين هي وحدها التي يرى بها الإنسان الأشياء والناس من حوله,العين تبصر, لكن هناك البصيرة التي ترى أبعاداً لا تراها العين المجردة ,

العين في وجه الانسان قد ترى ربما عشرات الأمتار لكن البصيرة مثل زرقاء اليمامة ترى بعيداً بعيداً,وفي كل الزوايا.‏

الأعمى نفسه له هذه البصيرة وربما هي أشد رؤية من إنسان له عينان يرى بهما الناس والبنايات والشوارع. لكن البصيرة أرفع شأناً من البصر ( رؤية الأشياء بالعين), بل أهم منه: إنها الملكة التي تتكون عبر التبصر , والتبصر هو التفكر والتدبر, استعراض بعض الآيات في القرآن يحسم المفاضلة :( لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها),( وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) ,( ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ),( قال ربي لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ), و( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار). والعرب تطلق على الأعمى( أبا بصير).والبصيرة إلى ذلك تفكر ربما هي جزء من العقل ولكنها أيضاً جزء من القلب والأحاسيس والعواطف. وهي بصيرة كاشفة تعرف الحقيقي من المزيف وتعرف الصدق من الكذب, كما تعرف أيضاً الحب وطوباويته والكره وقذارته. والبصيرة الحادة تطرح الأسئلة وتجيب عليها في الوقت نفسه, العين لا ترى جيداً عبر الضباب, لكن البصيرة تخترق الحجب وتتجاوز الضباب, وترى مكامن الصفاء في أي مكان وهي أيضاً تساعد على بث التوازن في أْعماق الإنسان, وتكافح من أجله كي يكون على معرفة من أمره, وأين يضع قدمه ولا يسقط إنها شيء خاص لكل واحد منا وهي التي تضبط وجودنا في هذه الحياة, بصيرتي لا تشبه بصيرة الآخر, فلكل منا هواجسه ومشاكله ,وهي تشبه الشوق الذي لا يوصف وإنما يكابد. والبصيرة دائماً هي المفتاح السحري لكل الفنون والآداب والعلوم, لا يمكن وصف البصيرة في كلمات إنها أكبر من كل الكلمات وتتجاوز وكما يقول المتصوف أبو البركات البغدادي:( أظهر من الظواهر وأخفى من كل خفي).‏

والبصيرة هي جزء من الإرادة تنبض مثل القلب, موجودة في الزمان والمكان, وهي تجيب على الأسئلة التي تتوارد في خواطرنا ومثل الخلق والولادة تنمو معنا فبصيرة الشيخ وقد صقلتها التجربة ليست مثل بصيرة الطفل أو الولد أو الشاب,تتطور مع تطورنا وتنهص مع نهوضنا,وهي أبعد من الزمان وأقرب بل هي عقرب الثواني والدقائق والساعات هي زمن الإنسان الخاص تختلف عن زمن الأرصاد الجوية والفصول يعيشها كل واحد منا ونضبط عليها وجودنا وأحلامنا وأمانينا. إنها العصارة التي تحمي الإنسان من التهالك, وهي العصارة التي تصعد في قلوبنا فتبعث فينا الحياة تنفض من بدننا كل زائد بل وتطهرنا من أدراننا.وهي تسري في عروقنا مثل الضوء والكهرباء وتنتقل في أجسامنا تبث الحرارة في الشتاء والبرودة في الصيف. وفي البصيرة نقشط هذه القشرة التي تغلفنا من خارج فتظهر على حقيقتنا كما نحب أن نكون في عيون الناس, إنها باختصار عقلنا الباطن من خلالها ننظر إلى العالم ونعوم بها في البحار والأنهار,لأنها صورتنا الحقيقية والأصيلة والتي تظهر على وجوهنا على الدوام وهي تمسك بكل حالاتنا الظاهرة والباطنة والطريف أن هذه الحالة ما تلبث أن تفلت وتحل محلها حالة أخرى,إنها تتجاوب مع الواقع وتساعد أعماقنا على أن يكون لنا سقف يحمينا من التهور والانزلاق, إنما أعماق تؤدي إلى أعماق, وجود مفتوح من الداخل على إمكانيات لا نهاية لها, لأنها تهوي إلى أعماق بلا آخر. أنا, مثلاً من الخارج لي حدود لكنني من الداخل أفكار وصور وأحاسيس لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد كأنها متصلة بينبوع إلهي يظل يتدفق دون توقف, جميعنا نتبدل من الخارج.‏

والبصيرة تكشف إنسانيتنا وتفصل بيننا وبين حيوانات الغابة والإنسان بطبيعته يخضع للحاجة, حسب مقدرات حياته, والحاجة مذلة ,خصوصاً إذا لم تبذل وهنا تضيع نفسي وأصبح موضوعاً من الموضوعات مثل أي شيء آخر من الأشياء, لكن بصيرتي تميزني عن كل شيء وتنسج فرادتي وحدي, وأخلاقي وحدي, وحبي للآخر وحدي.‏

هذه أمور لا نحسن بها من الظاهر, لكن بصيرتنا الداخلية تعرفها وتحس بها , وهي تكشفنا من الداخل وتدلنا على الطريق .. تنبثق انبثاقاً بكل فطرتها, نحسها ونعرفها ونفهمها, هي أكثر وعياً من العقل بل هي دعم له عندما نتعرض للمشاكل كل شيء في ذواتنا خاضع لها ,إنها الإرادة,وتعرف بالحدس ماذا نريد, تكشف لنا القيم والعالم واللحظات التي نولد منها ونعيش ونموت,لاشيء في الدنيا كبير بالنسبة للبصيرة, إنها أكبر لأنها أصدق في الاكتشاف ,إنها عين الله في داخلنا,نتصارع ,نتكالب,نركض وراء الحياة لكنها هي التي تخفف من غلوائنا,إنها توازن فعلاً بين السالب والموجب فتمر حياتنا على مهل, كما لو أننا نمشي الهوينى.‏

فلنحافظ على هذا الكنز العظيم الذي يعيش داخل ذواتنا, وندفعه باستمرار للظهور بكل قواه.‏

إليها: في برجها‏

موحشة هذه الأيام وقليلة أغانيها‏

فلا الشاي له طعم ولا الخبز ولا الماء‏

موحشة من دونك كسطح القمر‏

كالأرض الجرداء, كالصحراء‏

موحشة من دون مواعيدك‏

من دون رسائلك وهواتفك‏

من دون لقاء‏

وليس لي غير ملح المكابدة‏

وجرح الأشواق‏

ليس لي غير الليل الصامت‏

والأوجاع الصامدة‏

ووسادة الأحزان‏

كل ما حولي‏

عجين لا يطبخ ولحم لا يشوى وطعام لا ينضج‏

أحاول أن أجترح البحر كي أصل‏

أن أعبر الفضاء كي أصل‏

أن أسابق الريح كي أصل..‏

ولا أصل‏

في أي كوكب أنت في أي مكان‏

في أي أرض وشجرة وزمان‏

أصل أصل‏

ولا أصل ولا أصل ولا أصل‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية