تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة

ثقافة
الأربعاء 4/5/2005م
عقبة زيدان

يعبر المرء عبر خطه الزمني الطويل, باتجاه الضفة الأخرى, وهو يذوي رويداً رويداً. يستعيد لحظات حياته الهامة, العميقة الأثر في نفسه, فينتشي.

تباغته غصة مؤلمة من تذكره هذا, وهو يأسف لعدم توفر ما يسد به رمقه الروحي, حين يدرك أن مخزونه في أيامه الماضية, لم يكن كافياً لانتقال مجيد إلى عالم آخر, جديد عليه حتماً. ويجهل إن كان سيستطيع أن يسجل بحماس تلك اللحظات القادمة.‏

العيسى: ما آمنت يوماً بكلمة تقال في الفراغ.. الكلمة همٌّ وقضية‏

الماغوط: لديَّ استعداد لأن أتنازل عن مليون شيء ولا أتنازل عن قلمي‏

إخلاصي: الثقافة فعل ديمقراطي, تصنع من القاعدة إلى القمة‏

وحده الفنان يستطيع, من خلال الرؤية الصافية غير المشوبة بالضعف, أن يخترق رعب الزمن القادم, ويطل بثقة عبر هوة الزمن, ويتقدم بثبات الملوك, حاملاً ألمه العظيم المتحرر من كل عبودية ورق. ليس هناك من نهاية تجعل الفنان يعيش في خوف, حين يكون متخماً بالحب إلى أقصاه, وحين يكون متورماً بالمعرفة, ومرهقاً بالتجارب. عندها يمكنه أن يصبح قادراً على ترك الحياة, وهو متوج بالمجد. وعندها يكون قد عرف كيف يستغل الحياة ويستخلص منها موتاً جليلاً, قابعاً فيها على الدوام ولكنه غير فاعل. وتصبح حكمة الحياة, وكأنها مختزلة بقول طاوي بسيط ولكنه عميق: (من يعرف كيف يعيش, يمكنه أن يضرب في الأرض دونما خوف, لأنه لا يترك للموت مكاناً ينفذ منه).‏

(لقد عاشوا بقوة وأبدعوا بصدق, ونالوا تكريماً يستحقونه). إنها الكلمات الأولى التي حضرتني وأنا جالس في مكتبة الأسد, أشاهد الاحتفاء بالتكريم الذي أولاه السيد الرئيس بشار الأسد لرجالات الفكر والثقافة والأدب وهم الأدباء: سليمان العيسى ومحمد الماغوط ووليد إخلاصي, وأرى كيف قام السيد وزير الثقافة الدكتور محمود السيد بتقليدهم وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة تقديراً لإنجازاتهم في مجال الفكر والثقافة.‏

ابتدأ الحفل بنبذات عن حياة كل من الأدباء الثلاثة المكرمين. ثم وبمساعدة البعض, وقف الشاعر سليمان العيسى على المنصة, وكان أول المتحدثين, فقال:‏

(وماذا أبقت لك الأعوام.. أيها (الحطام)?‏

لكي تمد يدكَ إلى الوتر..‏

وتحاول أن تعتصر دندنة‏

أو ترسل في الفضاء كلمة مجنحة!‏

ماذا أبقت لك الأعوام‏

أيها الحلم المشرد‏

الذي فتح عينيه على أول قصيدة‏

يقولها طفل في التاسعة.. أول جمرة يحرق بها يده,‏

في قريته الضائعة وراء الضباب.. في الشمال?‏

**‏

لن يركع الحلم‏

أيها الطفل الذي فتحت عينيك عليه‏

لن يستسلم للهزائم التي تهزم الجبال‏

كان وما زال وسيظل يقاوم‏

والقصيدة - الجمرة الأولى تأكل راحتيه‏

**‏

هكذا خطر لي, أيها الأخوة والأخوات,‏

أن أفتتح كلمتي.. وأنا أجرُّ حطامي, وأعوامي,‏

وآتي إليكم.. إلى أخوتي وقصائدي القديمة, وأطفالي,‏

لأقول لكم: إني كنت, وما زلت, وسأبقى لكم‏

لم أومن يوماً بكلمة تقال في الفراغ‏

الكلمة همٌّ وقضية‏

وهدف.. الكلمة هي الإنسان.‏

إن الوسام الذي يطوقني به بلدي الآن‏

ليس لي وحدي‏

فأنا لم أفعل ما أستحق عليه بعض بعض خيوطه الكريمة.‏

اسمحوا لي أن أتذكر بعض من كانوا مناراتي في الطريق,‏

الطريق الحلو المر الذي قطعته حتى الآن.‏

اسمحوا لي أهدي أجمل خيوط الوسام إليهم في هذه الذكرى الجميلة.‏

اسمحوا لي أضع حزمة من خيوطه‏

على صدر والدي الشيخ أحمد العيسى - نضَّر الله ثراه -‏

والدي الذي كان أستاذي الأول في (كُتَّابه) أو مكتبه الفقير العظيم في حارة بساتين العاصي.‏

والذي سكب قطرات النور الأولى في عيني وعيون أطفال‏

قريتي, وأنا في الخامسة أو السادسة من عمري.‏

اسمحوا لي أضع حزمة من خيوط الوسام على صدر المناضل العربي الفذ الذي سقاني أنا وجيلي حلم العروبة, ورسم لنا طريق الوحدة والحرية, والغد العربي المضيء,الأستاذ الكبير زكي الأرسوزي. لقد كان منعطفنا القومي الأصيل الذي ما زلنا بحاجة إليه.‏

اسمحوا لي أهدي حزمة من خيوط الوسام - بعد أن أضيف إليها باقة صغيرة من ورد الشام - إلى هذه المناضلة التي شاطرتني العمر, والكفاح المشترك, وكانت ولا تزال تفتح أمامي كل يوم طريقاً جديدة للكتابة والإنتاج والعمل, بلا ضجيج ولا أضواء, رفيقة الدرب والكفاح الأستاذة الدكتورة ملكة أبيض.‏

وأنا على يقين أن الكثيرين في هذه القاعة, وبين هذا الجمهور الكريم, كانوا منهم ذات يوم, ولا يزالون يحفظون أناشيد سليمان العيسى ويغنونها مع أطفالهم.‏

ماذا بقي لي إذاً?‏

بقي لي أثمن شيء يجعل لحياتنا معنى - في رأيي -‏

بقي لي هذا الأثر الطيب الجميل النقي الذي تركته الكلمة الشاعرة في نفوس الأصدقاء والأبناء..‏

ولن أعدل بهذا الأثر الجميل شيئاً في الدنيا.‏

**‏

شكراً لسورية العروبة والعرب‏

كاتبة أول كلمة في التاريخ‏

على آجر أوغاريت.‏

شكراً لرئيسنا الشاب‏

على شبابه, وثقافته, ووعيه تعقد الآمال في هذه الحالكات الثقال.‏

شكراً لأخي وصديقي القديم الجديد وزير الثقافة على اهتمامه بهذا الشيخ الذي هدمته السنون, وحفاوته البالغة بكل ديوان شعر يقدمه للطباعة في وزارة الثقافة. وقد كان من أحدثها ديوان دمشق - حكاية الأزل.‏

شكراً للأخوة والأخوات الذين سعدت بلقائهم في هذا الحفل الكريم, وفي هذه القاعة التاريخية, فقد كنت لهم, وكانوا لي, كما قلت, وما زالوا قصيدتي الأولى على امتداد الشعر والعمر.‏

حملتكم في دمي يا كل من رضعوا‏

هذا العذاب معي, في هدبهم سهدي‏

حملتكم في دمي أحزان قافية‏

وما شكوتُ سوى ما يشتكي بلدي‏

ما خفت يوماً ولوغ الموت في دمنا‏

باد الغزاة وهذا الميت لم يَبِدِ).‏

بدا الماغوط وقد هدَّه الزمن هو الآخر, لذلك فقد كان صعوده إلى المنصة صعباً بالنسبة إليه دون مساعدة, وكانت الأيدي المحبة تمتد لمرافقته إلى المنبر. وقف بعدها وشكر الحضور, ثم قال ببساطة وبعامية لطيفة كلمات ارتجالية: (لم أكن في يوم من الأيام أتوقع أن أصل إلى ما وصلت إليه. كنت دائماً أحلم بالزواج من ابنة عمي أو ابنة خالي, وأن أنجب أولاداً ونجلس في البستان. دخلتُ في حزب لا أعرف مبادئه. وأخيراً.. بالمناسبة أنا لا أعرف المديح. شكراً للرئيس بشار الأسد بشارته الربيع في زمن اختلاط الفصول وتلبد الأجواء. وشكراً للدكتور محمود السيد الذي لا أعرف ماذا يعطي لي ولمن يحتاجون إلى الكلمة وإلى المعونة.. وشكرا).‏

بعد هذه الكلمة المقتضبة, صعد الأديب وليد إخلاصي بهدوئه المعتاد, وبدأ بالكلام: (في مقام كهذا, تتجلى فيه أعلى درجات التكريم, التي تمنح لعدد من صانعي الثقافة الوطنية, لا مكان لقول يقال سوى إعلان الشكر وتقديم الاحترام لرأس الدولة متمثلاً في السيد رئيس الجمهورية بشار الأسد, الذي تدفعنا خطواته الفاعلة في مسيرة الحياة المدنية إلى جعل هذا الاحترام ملازماً لحب تحمله القلوب له. ويخيل لي أني أجد فسحة في طيات لحظات التكريم هذه, فأتحدث عن الصدق الذي يفجر لقاء مع جمهور مثلكم في مكان يضمنا كهذا المبنى الذي جسد يوماً واحدة من أمنيات الثقافة السورية وقد حمل اسم مكتبة الأسد.‏

أقول: إن الصدق يستوجب مني الاعتراف بأن ما كتبته في نصف قرن من روايات وقصص ومسرحيات ومقالات, لم يكن بالنسبة لي سوى (بروفات) شغلت جانباً كبيراً من حياتي التي إذا ما استمرت قدماً, فإنها ستستفيد منها كي أحقق حلمي في كتابة ما هو أفضل. وأقول إن هذا الوسام سيكون دافعاً لي في متابعة تجاربي للوصول إلى ما أحلم به.‏

أقول: إن صدق العدل يدفعني إلى تقدير عميق لهذا الاهتمام الذي يظهره السيد الرئيس في تكريم الثقافة في وقت تشتد فيه الضغوط على الحبيبة سورية وتهب عليها رياح السموم من كل صوب. أتراها عبقرية الجغرافيا قدر عليها أن تصمد أبداً في وجه العداء? أتراها سورية التي صنعها التاريخ بريشة الزمن قد جعلت لتقاوم بلا هوادة?‏

وأقول: إن صدق الاعتراف في هذا اليوم يجعلني أقرُّ بحسن الاختيار لشاعر ومعلم كسليمان العيسى وشاعر ومسرحي كمحمد الماغوط, وذلك لاستكمال صورة تكريم الثقافة, وهما من الذين أفخر بشرف المعرفة والصداقة لهما, كما وتعتز ثقافتنا بتمثيلهما المبدع لها.‏

ولا ريب في أن الوسام الذي علقته الدولة على صدرها بتكريم منحته لنا, سيؤكد على أن بشائر الربيع لا تتوقف عن زرع الأمل في أرضنا الغنية.‏

السيدات والسادة: أقول إننا نفخر بالشرف الذي غمرنا به حبكم, رئيساً ومسؤولين وجمهوراً, ندين لهم بفضل الاستمرار. فشكراً من أعماق القلب الذي كتب عليه الحب لكل ما هو نبيل. فأدعو الله أن يعيننا على تحمل مسؤولية هذا التكريم كي نتابع مسيرة الثقافة.‏

وأقول: سلاماً علينا يوم نستكمل جميعاً بناء وطن قدم لنا أكثر مما قدمنا له, ويوم تمضي الدولة قدماً في بناء صرح ثقافتنا الوطنية.‏

وشكراً لمن يشع قلبه وعقله بالمحبة لهذا الوطن, والسلام عليكم).‏

جلس المكرمون أمام الجمهور على المنصة, وصعد وزير الثقافة الدكتور محمود السيد ليلقي الكلمة الأخيرة ويحيي المكرمين والجمهور, ثم توجه بأسمى آيات الشكر والتقدير والإكبار والولاء لقائد مسيرة الأمة السيد الرئيس بشار الأسد على ما أولاه من تكريم لهذه الكوكبة المتميزة من الأدباء من أبناء الوطن بمنحهم وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة. وتابع السيد الوزير قائلاً:‏

(وما أروعه من تكريم, يجيء من السيد رئيس الجمهورية الوفي لقيم الإبداع, والمقدِّر لأصحاب العقول المبدعة من ذوي التجارب الإنسانية العميقة الزاخرة بكل ما هو نبيل وسامٍ في هذه الحياة, هذه التجارب التي تعد منهلاً عذباً للأجيال ينهلون منها ما يرتقي بالفكر, ويسمو بالقيم, ويغذي الوجدان.‏

وإن الوطن ليعتز ويزهو بهذه القامات الأدبية العالية المتواضعة والشامخة كالتواضع, والتي استحقت التكريم بكل جدارة, وما أسمى أن يقابل الوفاء بالوفاء!‏

فلقد كان مكرمونا أوفياء للوطن, للأرض, للقيم, للإنسان, للكلمة الشريفة المسؤولة, فكانت الكتابة لديهم صلاة وعبادة, وقفوا أنفسهم لها, وتبتلوا على محرابها, وتمسكوا بالقلم أداتها, ألم يقل الماغوط: (لديَّ استعداد لأن أتنازل عن مليون شيء, ولكن لا أتنازل عن قلمي, ولا مال ولا سلطة ولا غيرهما يعوض عن الكتابة) إيماناً منه بأننا لن ننتصر على أعدائنا, أعداء حريتنا وتاريخنا ومستقبلنا بالسلاح الأبيض أو الأحمر, بل بالسلاح الأزرق على حد تعبيره, أي بالكلمة الهادفة الملتزمة.‏

ولقد قادتهم أقلامهم إلى مزيد من محاربة القهر والاستبداد, إن في داخل السجون أو في خارجها, وهم يحملون الهم القومي لأمتهم, فكانوا معبرين عن آلامها وآمالها صدقاً ووفاء وشرفاً وإباءً.‏

وظل الأدب صديقاً وفياً لمكرمينا في الدروب التي قطعوها, تمسكوا به في رحلة المكابدة والمعاناة لأنه طريق النور, فلنستمع إلى الأديب وليد إخلاصي يقول: )أغمض عينيك يا صاحبي, وفكر قليلاً من أين أتيت, وإلى أين تمضي, ستجد أن النور هو الذي يمتد عبر طريقك). وها هو ذا الشاعر الماغوط يعبِّر عن معاناته ووقوف الشعر إلى جانبه في مكابداته, قائلاً:‏

في ليالي البرد‏

والجوع‏

والقهر‏

والذل‏

والإدمان‏

والإهمال‏

والمطاردات‏

في الأقبية والملاجئ‏

وفي المقابر والحاويات‏

من وقف إلى جانبي‏

غير الشعر?‏

ولذلك لن أتخلى عنه‏

مهما كانت صحبته مملة ومضنية ومقرفة.‏

لقد آمن مكرمونا أن الكلمة هي الوسيلة المثلى لتحطيم القيود وتحرير الفكر والتصدي للجائر والزائف والجامد والتابع والناقل وغير ذلك من غير الصحيح وغير الأصيل وغير الأخلاقي. وكانت الكلمة وسيلتهم الأساسية للنضال حتى تنقشع تلك الظلمة المخيمة على مناطق شاسعة من فكر الإبداع, إيماناً منهم أن مصير الأمم في مستقبلها رهين بإبداع أبنائها, وما كان المبدع إلا ضمير مجتمعه ورمز إرادته, والشاهد على عصره, والمعبر عن ثقافته, والحاثَّ على التغيير, والموقظ لهمم, وطالما نفذ المبدع ببصيرته مخترقاً غيوم الاحتمالات, ومستخلصاً الغايات من متاهة الرؤى المتضاربة, ورحم الله العقاد إذ يقول: )ولنعلم بعدُ أن للأمة جهازاً عصبياً يحس بما يعتريها, وينبهها إلى ما يجب عليها, وأن الأديب الحق أدق أعصابها نسجاً وأسرعها للمس تنبهاً, ولا غنى لجسم الأمة عن هذه الأعصاب المفرطة في الإحساس(.‏

ويقول الماغوط:‏

(أنا لا أكتب إذا لم أكن مثخناً بالجراح, والحزن هو جوهر كل إبداع وتفوق ونبوغ, حتى الكوميديا الراقية, إذا لم يكن الحزن منطلقها تصبح تلفيقاً وتهريجاً, وعلى المبدع الأصيل أن يدفع ثمن ما يكتب, لا أن يقبض كما يفعل المزيفون وتجار الكلمة).‏

إن حياتنا المادية في ظلال العولمة تقوم على تقانة متقدمة في حين تئن حياتنا الروحية تحت وطأة الخواء, فألهتنا التقانة المتقدمة بقدرتها الفائقة على إحداث التغيير في الوقت الذي نسينا فيه ما بقي وسيبقى دوماً ثابتاً في داخلنا دون تغيير, نسينا مطالبنا الوجدانية وحاجتنا الدائمة إلى المثل العليا وإلى الألفة والمحبة والتآخي والإحساس بالذات والهوية.‏

إن المجتمع الإنساني الحديث يعاني من حضارة الانفصال: انفصال بين الفكر والسلوك, وبين النظرية والتطبيق, وبين التعليم والتربية, وبين التنمية والمحافظة على البيئة, وبين التقدم الاقتصادي وتحقيق الرفاهية الحق, وبين قدرات التقانة ونتائجها المتحققة فعلياً, ولا مفر أن يؤدي هذا الانفصال إلى انفصال الإنسان عن أخيه الإنسان, واتساع الهوة بين من يملك ومن لا يملك, وبين من يعرف ومن لا يعرف!‏

وما أجمل ما قاله الصديق الأستاذ الدكتور خالد الرويشان وزير الثقافة والسياحة اليمني في الاحتفاء بشاعرنا سليمان العيسى في اليمن:‏

)احتفاؤنا بك احتفاء بنبضة برعم خافق بالحياة كنت قد أودعته صحراء تيهنا وبأبهى ما زرعته في جنبات أصقاعنا.‏

غناؤكَ غناء, وحياة ورواء, صوتك بلاد وتاريخ وسناء.‏

منك تعلمنا كيف نذرو أقمار أحلامنا في مفازات اليأس كي تثور سنابل حياة, وتفور ينابيع أمل(.‏

أما أديبنا ا لماغوط فما أبهى التصاقه بأرض بلاده أيضاً, غذ يقول:‏

(أنا مثل بردى حين يجف أجف, وحين يتدفق أتدفق. ودمشق هي قصة الحب الأول والصوت الأول, بعيداً عن شوارعها أصاب بالكساح, ودون رائحتها أصاب بزكام أبدي).‏

وأما أديبنا الكبير وليد إخلاصي, فهو في مؤلفاته كافة ومنها رواية (الفتوحات) ومسرحية (العشاء الأخير) وقصة (نافذة على قلب أسود) و(التحدي) يرنو إلى المستقبل المضيء, وهو مفعم بالحيوية والصدق والحرية والإنسانية, وها هو ذا يقول:‏

(لا تنتفي إنسانية الإنسان دون الديمقراطية والحرية), ويدعو في الوقت نفسه إلى ديمقراطية الثقافة انطلاقاً من رؤيته أن الثقافة هي فعل ديمقراطي, وتصنع من الأسفل إلى الأعلى, وعندما تصنع من الأعلى إلى الأسفل تصبح نوعاً من القمع, ولا يكتب لها البقاء).‏

اتسم أدباؤنا المكرمون بالمشاعر الرقيقة, والأحاسيس النبيلة, والقيم الرائعة, ولقد زان ذلك كله الحكمة, إذ طالما توافرت المعرفة وغابت الحكمة, ولكن أدباءنا المكرمين أضافوا إلى المعارف والمناقب الرفيعة التي بها يتحلون سمة الحكمة, والحكمة هي أصفى رحيق يقطره عقل الإنسان, فلنستمع إلى الأديب وليد إخلاصي يقول:‏

(كثيراً ما يصاب الكاتب بالإعجاب بالعمل الذي يكتبه ظناً منه أنه قد فعل شيئاً عجباً, ويظن نفسه على حق, وإذا ما استمر ذلك الإعجاب فتلك هي المصيبة). ويعتقد أن أشد أنواع الأمراض خطورة على الكاتب اعتقاده بأنه يمتلك الحقيقة أو جزءاً منها.‏

ويقول أيضاً:‏

(سأكون فخوراً بأن أكون في عداد المجتهدين الذين لا يعرفون الملل. والكاتب الحقيقي هو الذي يمتلك المثابرة على إثارة التساؤل وعلى العمل الذي يحقق شيئاً أفضل للحياة).‏

ويرى: (أن الأصالة ليست في الاستقلال عن المناخ الإبداعي للكون, وإنما هي نقطة أساسية في دائرة الفن, فالتغريب تحليق خارج محيط الدائرة, والتجريب على المحيط نفسه. أما الأصالة فهي نقطة داخل الدائرة, نعرّب في المسرح لأننا فقراء, ونجرب لأننا طامحون, والأصالة هي المساهمة الفعالة في الحضارة الإنسانية العظيمة).‏

أما الأديب الماغوط فيرى: (أن الجبال زائلة والبحار زائلة والحضارات زائلة, أما الحب فباقٍ).‏

وجميلة جداً مقولته: (المبدع كالنهر الجاري متى استقر تعفن), ومقولته: (الحرية هي منطلق كل شيء).‏

ويرى أديبنا سليمان العيسى أن الفن العظيم يتفجر من ينابيع ثلاثة عظيمة:‏

الموهبة أصيلة‏

والتجربة حية عميقة‏

والثقافة متجددة أبداً‏

وقيل من ظفروا بالكنوز الثلاثة مجتمعة‏

إنهم هم الخالدون.‏

ويقول أيضاً:‏

لم ألق أكرم من تراب بلادنا‏

نغتاله ويضمنا تحنانا‏

لقد جاء تكريم السيد الرئيس لأدبائنا جزاء وفاقاً لثمرات عقولهم النيرة, وعطاءاتهم المستمرة, وانتماءهم الوطني والقومي, وتمسكهم بثوابت الأمة والدفاع عن قضاياها العادلة.‏

وأخيراً, قام السيد الدكتور محمود السيد وزير الثقافة بتقليد الأوسمة للأدباء الثلاثة, وسط تصفيق الجمهور.‏

لم أستطع أن أخفي دهشتي مما لفت نظري في هذا التكريم.‏

لقد لاحظت قلة الحضور, وخصوصاً من جانب الأدباء والفنانين. وشعرت بأن غصة قد أصابتني وأنا أشاهد المقاعد الفارغة تستجدي من يجلس عليها في هذه اللحظات. لكني, ولأنني ممن يتمنون دائماً, فقد اكتفيت بالحزن, وتابعت بصمت.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية