|
كتب والمشكلة الأكبر لدى اورتيغا أن حضارة أو أمة أخرى ليس بمقدورها أن تحل محل اوروبا على الرغم من أنه ( أي المؤلف) لا يعترض على وجود مثل هذه الحضارة أو هذه الأمة وعلى العموم فإن المؤلف والذي ينظر إلى نفسه كما ينظر اليه الآخرون بوصفه فيلسوفا ينقل لنا في هذا الكتاب دون أن يفصح عن ذلك صراحة, المحنة التي ولدها اندحار الحداثة أو ما تعارف على تسميته ( ما بعد الحداثة) هذه الحقبة التي انطلقت مع تشكل الطور الامبريالي في ألمانيا تحديداً. والتي تميزت بموت الإنسان واتجاهات السقوط والعدمية وأهمية ما يقدمه أورتيغا يتجلى في اشارته إلى أن موت الإنسان والعدمية أفسحا المجال لظهور الجماهير وهي جماهير فاقدة للأهداف تماما كما هي فاقدة لأي نوع من الضوابط والقواعد التي كانت سابقا تضبط حياة الناس أفرادا وجماعات وبتعبير أورتيغا نفسه فإن الإنسان - الجمهور, الذي أوجدته حقبة ما بعد الحداثة هو نموذج من الشر صنع على عجل ولا يقوم على شيء سوى بعض المجردات البائسة ولذلك فإن هذا الجمهور متماثل في كل انحاء أوروبا وبسببه يسيطر على أوروبا الحزن والرتابة الخانقة. فالإنسان - الجمهور أفرغ من تاريخه ومضمونه وتحول إلى مادة هلامية قابلة للتشكل وفقا للمذاهب الدولية التي سادت أوروبا والعالم بعد نهاية عصر الحداثة. ويذهب اورتيغا أبعد من ذلك فيقول إن الإنسان - الجمهور ليس إنسانا بل قشرة إنسان تكّونه اصنام السوق وهو خال من كل حميمية وهو لهذا السبب غدا جاهزاً ليكون كل شيء إلا ذاته وهو يعي ويطالب بتحقيق شهواته واحقاق حقوقه ولا يعترف بأن عليه في مقابل تلك الحقوق أية واجبات. كتاب اورتيغا اذا نعيٌ للحداثة بكل المشاريع الكبيرة التي شكلت ملامحها الأساسية كالعقلانية والعلمانية والتاريخانية وخصوصا النزعة الإنسانية. وبهذا الاعتبار يبدو اورتيغا مفجوعا بالحداثة المهدورة, محاولا حث اوروبا على العمل من جديد على إعادة انتاج الحداثة التي فرغت من مضمونها واستنفدت وظائفها. بحيث تعيد هذه الحداثة طرح مشاريعها في مواجهة العدمية بما يعيد الاعتبار للذات الإنسانية في مقابل الإنسان-الجمهور,أما أحساس اورتيغا بأن الجماهير قد وصلت للسلطة الأمرالذي جعل أوروبا تفقد زمام أمرها والعالم,فلا يمكن النظر إليه على أنه تعبير عن واقع الحال,بل إن فقدان السلطة وزوالها من يد أوروبا مرده إلى تطور الرأسمالية (الرجعي)الذي عبر عن نفسه أولا بنشوء الإمبريالية العالمية وقيام الايديولوجيات الكبرى (الفاشية والنازية) وثانيا بسيطرة اقتصاد السوق الذي أخذ يلتهم كل القيم والأهداف والمشاعر وإعادة انتاجها على هيئة سلع فسحب الأمر الذي افضى إلى وجود الجمهور وغياب الإنسان. وإذ يبدو اورتيغا مقتنعا بأن أمه أخرى لا يمكنها أن تحكم العالم بدلا من أوروبا,وحيث لا يجد في كل روسيا الشيوعية آنذاك أو نيويورك الرأسمالية مثل هذا البديل, فإن التاريخ كان قد أوضح عكس ذلك,فواقع الأمر أن روسيا وواشنطن حكما العالم على مدى عقود طويلة,وكان على اورتيغا الذي مات عام 1955 أن يعيد النظر في بعض قناعاته حول هذا الموضوع,فما أن وضعو الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعد العدة ليس فقط لحكم العالم بل ولأمركته أيضا,بادئة بما سمعته( العولمة الصغرى) أي السيطرة الاقتصادية على دول أوروبا الغربية,وقد انتظرت بصبر وبحرب باردة نهاية وسقوط الاتحاد السوفييتي لتنقل هذه العولمة إلى الكرة الأرضية قاطبة, ما يعني أن الحديث عن إنسان-جمهور بدلا من إنسان-ذات,مثل المحطة الأولى لانطلاق قطار العولمة التي تمعن في جعل ذلك الجمهور أكثر اغتراباً من قبل. الكتاب:تمرد الجماهير-خوسه اورتيغا إي غاسيت-ت:علي ابراهيم اشقر, وزارة الثقافة-دمشق-.2007 |
|