|
شؤون ثقا فية تجري الأحداث في إسبانيا, في مدينة إشبيلية أيام محاكم التفتيش .. كان المفتش الكبير يحوم ليلة أمس وبحضور الملك ورجال البلاط والحسناوات أمر بإرسال كثير من الزنادقة الى النار... ظهر ذلك الراهب دون ضوضاء.. عرفه الناس.. أحاطوا به, فاتقد الحب في قلبه وهو يمد ذراعيه نحو الشعب..(إنه هو .. يجب أن يكون هو)! هنا بالذات ظهر كبير الكرادلة, أمر الحراس باعتقال الراهب, ابتعد الناس.. أفسحوا الطريق للحراس مذعنين ثم سجدوا أمام المفتش الكبير الذي باركهم ثم انصرف. في الزنزانة قبالة الحب فتح باب الزنزانة المظلمة ودخل المفتش الكبير, أغلق الباب خلفه,تفرس في وجه السجين, قال: أهذا أنت?.. أنت ! لماذا جئت اليوم? لا أعرف من تكون ولا ما تريد.. أنت لست إلا طيفه وسآمر بإحراقك غدا! داخل الزنزانة -الافتراضية-على خشبة المسرح المقتربة من الجمهور تدور أحداث العرض المسرحي(المفتش الكبير) ويمكن تلخيص تلك الأحداث المتبلورة فيما قاله المفتش الكبير طيلة مدة العرض بمقولات تفصح عن الغاية: -لماذا أتيت.. كل شيء الآن يعتمد على البابا.. كان عليك ألا تأتي قبل الموعد المحدد.. فالكشف الآن سيبدو معجزة وسينقص من حرية الانسان.. باسمك عملنا وكلفتنا حرية الانسان 15 قرنا.. لقد عهدت إلينا بمهمتك حين غادرت الأرض, فلا تفكر بانتزاع ذلك منا!! هل ترى هذه الحجارة! حوِّلها الى خبز, وسيهرع الناس إليك طائعين.. ماذا تساوي الحرية إذا اشتريت بالخبز!! لقد اختفت الخطيئة وبقي الجوع ..فحسب.. لقد استمدينا قوتنا منك, وبهذا كذبنا عليهم.. سيفهمون أن الحرية لا تتفق وخبز الأرض.. وعدتهم بخبز السماء لكن هل يستطيع الجائعون مقارنة خبز السماء بخبز الأرض.. إنهم عصاة محرمون ومطيعون.. لانهم لا يريدون التعبد لوحدهم.. إن شيئا ينحني الناس كلهم له قادر على توحيدهم.. إنها الحقائق الثلاث تتغلب: المعجزة والسر والسلطة وقد رفضتها أنت جميعا.. فهل من طبيعة البشر رفض المعجزات حتى في أكثر ساعاتهم رهبة!? متى أنكر الانسان المعجزة ينكر الرب لأن ظمأه الى المعجزة أكبر من ظمئه الى الرب... قالوا لك: انزل عن الصليب لنصدق أنه أنت ..لكنك لم تفعل!! أردتهم أن يأتوك بدافع الحب!! لقد اسرفت في تقدير منزلة البشر.. لقد أحببت الإنسان أكثر من نفسك!. اغضب.. لا أريد محبتك لأنني أنا نفسي لا أحبك! أتريد أن أكشف لك سرنا?! منذ مدة طويلة نحن معه وليس معك.. هذا هو سرنا! أنكرناك لنتبعه هو!.. من يحكم الناس غير الذي يمسك بضمائرهم وخبزهم! غدا سأحرقك.. بعد أن يصمت المفتش الكبير عن الكلام يقترب السجين من العجوز, يقبله على شفتيه,! كان ذلك كل جوابه! ارتجف العجوز, اتجه نحو الباب, فتحه وقال للسجين: اذهب ولا تعد ثانية أبدا.. أبدا .. لقد حرقت تلك القبلة قلب العجوز, لكنه لم يعدل عن فكرته.. موجز لرحلة إبداع اقتبس عرض (المفتش الكبير) عن رواية (الإخوة كارامازوف) رائعة تيودور دوستويفسكي ويقول عنها الناقد الكسندر سوندفييف: أعطانا دوستويفسكي في هذه الرواية خلاصة أدبه وفنه. كانت آخر عمل كتبه قبل رحيله أواخر كانون الثاني من عام 1881.. وشكلت تكثيفا لكل أدبه وملخصا لكل أفكاره حول الإنسان والدين والإيمان بالله والخير والشر. إنها صورة مصغرة عن عالم دوستويفسكي كما أجمع الدارسون .. ولعل الاقتباس جاء من المشكلة المطروحة في حلم المفتش الكبير في (الأخوة كارامازوف) وقيل إن الاستثنائي في هذه الرواية هو اللغة.. اللغة القاتلة حيث تفكير عقل بارد يسيطر على الوعي الباطني لآخر ليقوم هذا الآخر بارتكاب القتل.. إنه التفكير القاتل الذي يعيدنا ليضعنا وجها لوجه امام أسئلة الخير والشر الخالدة.. وأمام لعبة الشيطان وضعف الانسان البسيط الطيب(لكن المحبة تنتصر في النهاية)..! حين انتهى دوستويفسكي من كتابة (الإخوة كارامازوف)شعر بسعادة للمرة الأولى منذ سنين وكتب في آخر صفحة من مدونته:(الآن.. أريد أن أحيا وأن أكتب عشرين سنة أخرى). المسرح الفقير..مسرح المنابع ينتمي عرض(المفتش الكبير) الى ما يسمى بالمسرح الفقير وهو مصطلح لا يعني اتجاها أو مدرسة ذات أصول وقواعد-كما يقول فرحان بلبل- بل هو وصف لنوع من العروض المسرحية التي تعتمد التقشف في المساعدات الفنية (ديكور,إضاءة ,ملابس..) كان المخرج البولوني جيرزي كروتوفسكي أول من بلور نظرية المسرح الفقير الذي يعتمد على البحث والتجريب وكفاءة الممثل وتشغيل الحركة والصوت للتعويض عن فقر الامكانيات التقنية والبصرية والسمعية والصوتية.. إنه يدعو الى استثمار الامكانات الصوتية المؤثرة لدى الممثل,كما يعمد الى تكسير خشبة المسرح والاتصال مع الجمهور بطريقة حميمية فالمتفرج هنا أساس(التمسرح) وهذا ما تؤكده (آن أوبرسفيلد) بقولها: (يجب أن نعلم أن المتفرج هو الذي يخلق الفرجة مثله مثل المخرج المسرحي) ولأنه يريد العودة بالمسرح الى منابعه الأولى وأصوله, دعا كروتوفسكي إلى إقامة عروضه المسرحية داخل حجرة عادية لا يفصل بين المرسل والمتلقي فيها أي شيء تحقيقا للتواصل الحميم والمباشر بين الطرفين (الجمهور والممثلين) فيحذف المنصة ويدع أحداثه .. وإن كانت عنيفة.. تحدث على بعد ذراع من المتلقي عساه يحس حتى بأنفاس الممثل. يتوجه المسرح الفقير الى عدد محدود من المتفرجين ولذا وصف بأنه نخبوي.. لأنه يتوجه الى أولئك الذين يشعرون بضرورة هذا الكشف-ويقول كروتوفسكي:( نحن لا نقدم تسلية لشخص يذهب الى المسرح لسد حاجة اجتماعية تقتضي الاحتكاك بالثقافة... يهمنا المشاهد الذي لديه احتياجات روحية أصيلة والذي يريد تحليل نفسه عن طريق المجابهة مع عرض مسرحي). (بروك) ومسرح الثقافات المتعددة في حين كان أرسطو أول من نظر للخطاب المسرحي (فن الشعر),كان أسخيلوس أول من كتب نصا دراميا(الضارعات) بينما لم يظهر الاخراج المسرحي إلا في منتصف القرن التاسع عشر مع الألماني ساكس مننجن عام ,1874 واستعملت كلمة إخراج لأول مرة عام 1820.- مع تراجع سلطة المؤلف ونصه ثم تضاؤل مكانة الممثل النجم جاءت سلطة المخرج الذي بات يتحكم بالنص وبالممثل وبالعرض المسرحي , منتقلا في ذلك من مرحلة المخرج المفسِّر الى المخرج-المرآة الى المخرج المبدع. في عرض (المفتش الكبير) كان الإخراج لبيتر بروك الذي ولد عام 1952 لأبوين روسيين هاجرا الى فرنسا ثم استقرا في لندن. يعتبر (بروك) من أبرز الشخصيات المسرحية في العالم المعاصر . أسست له منظمة اليونسكو معملا مسرحيا تجريبيا في باريس يمارس فيه نشاطه الفني والحرفي, بدأ الإخراج المسرحي في أوبرا (كوفنت غاردن) معتمدا على تلقائية الممثلين في التعبير. استوعب بروك نظريات من سبقه ثم حاول البحث عن (لغة مسرحية عالمية مشتركة لمخاطبة مساحة إنسانية كبيرة وتجاوز حواجز اللغة اليومية المتداولة). اعتمد على عدد من الممثلين المسرحيين من جنسيات متعددة وثقافات متعددة هادفا الى تحقيق التلاقح الثقافي بين كل ممثل وآخر وبينهم وبين المتلقي وهكذا فإن اختلاف الثقافات بين الممثلين سيوفر إمكانية البحث عن لغة مسرحية مشتركة. خرج بروك من العلبة الإيطالية -المسرح التقليدي- الى الهواء الطلق وقدم عروضه في الساحات العامة .يعتمد في تدريبه للممثلين على تقنية الارتجال الحر والتمرين الجماعي المشترك وتقنية القص واللصق. ساحة لتفجير المعاني تمكن الممثل القدير (بروس مايرز) من إدهاشنا في أداء شخصية المفتش الكبير. كان على بعد شهقة واحدة منّا .. وتركنا أمام مقولات موقوتة فالعرض المسرحي(ساحة تباينات لا ساحة بيانات .. ساحة تفجير معان لا حصر لها). وكان علينا أن نكتشف الدلالات ونروض المعاني رغم أن عملية التلقي المسرحي عملية غاية في التعقيد -كما قالوا- خاصة في ظل اختلاف المرجعيات الحضارية بين منتج العرض ومتلقيه, فالأول يقدم توجهه الفكري والثقافي الى المتفرج-الطرف الثاني- وعليه أن يفك شيفرة العرض وهذا يتطلب إلماما بثقافة الآخر . كنّا كمتلقين نحس بكل المتع التي يجنيها المتفرج وفقا (لأوبرسفيلد) التي أكدت أن المتفرج يجني متعاً عدة في متابعة العروض المسرحية: لذة المشاركة, لذة السخرية,لذة الفهم,لذة الضحك.. والبكاء.. لذة الحلم والمعرفة واللعب والمعاناة).. ..(المفتش الكبير) -في دار الأوبرا -عرض للمسرح الفقير غني بالمقولات والدلالات وفر للجمهور السوري كثيرا من متع الفرجة وما وقوفه وتصفيقه الطويل للعرض إلا دليلا على ذلك. شكرا لاحتفالية دمشق حاضرة الثقافة. |
|