تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ملامح تركة بوش في الشرق الأوسط

دراسات
الأحد 21-12-2008م
توفيق جراد

وهو يستعد لمغادرة البيت الأبيض الذي سكنه لمدة ثماني سنوات خلت، كان من ملامحها أن أقدمت الولايات المتحدة ومعها بريطانيا وبعض الدول القابضة، في سياق الدفع بالهيمنة إلى أبعد حد،

على تدمير العراق، دولة وشعباً، وهو أمر لم يلحظ له مثيل منذ أوج الاستعمار الأوروبي، وقتل أو التسبب في قتل نحو مليون مواطن عراقي وتشريد أكثر من أربعة ملايين في الداخل ومثلهم منتشرون في الخارج، أقدم الرئيس الأميركي المنصرف على تلاوة فعل الندامة، في لحظة من الحقيقة المرعبة، عندما أبلغ محطة ABC الإخبارية أنه يعرب عن ندمه من الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها استخباراته في العراق.‏

وسئل بوش: هل كان سيذهب إلى الحرب لو كان يعلم علم اليقين أن العراق لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل؟ فأجاب قائلاً: «هذا سؤال شيق. هذا أمر انتهى وليس لي حيلة فيه. ولا يستطيع أحد أن يفعله، حتى ولو كان قادراً على فعل ذلك.‏

إن الجانب المهم في مقابلة بوش لايكمن في ما قاله، بل في ماتجنب قوله، عندما بيَّن أن الفشل في العثور على أسلحة دمار شامل، كان الندم الذي شمل فترة رئاسته للولايات المتحدة، غير أنه لم يعرب عن أسفه للقرار الذي قاد أمريكا إلى الحرب، أو العمليات التي سهلت تزييف اتخاذ قرار الحرب. وهو لم يعتذر عن خرقه للقانون الدولي، ولم يأسف للأرواح البريئة التي أزهقت، ولا للتدمير البيئي في العراق، أو لخسارة الولايات المتحدة لقيمها الأخلاقية عندما شنت حرباً لا مبرر لها.‏

أكثر من أربعة آلاف و350 جندياً أمريكياً، ونحو 314 من القوات الغازية التي أطلق عليها تأدباً «قوات التحالف» بينها 176 جندياً بريطانياً، وعشرات إن لم يكن مئات الآلاف من العراقيين كان يمكن أن يكونوا على قيد الحياة.‏

في المقابلة التي أجريت معه من وراء ستار، زعم بوش أنه كان يتمنى «لوكانت المخابرات الأميركية غير ماكانت عليه»، لكنه كان يعلم أنه لايقول إلا كذباً، فمثله مثل كثيرين آخرين سبق لهم أن قرروا أن أمر «صدام» شيء مستقل عن حقائق أسلحة الدمار الشامل في العراق. وفي محاولة لتشتيت المسؤولية عن أعماله، عمد الرئيس الأمريكي إلى الإشارة إلى أن «أناساً كثيرين وضعوا سمعتهم على الحد الفاصل وقالوا، إن أسلحة الدمار الشامل تعتبر سبباً كافياً للاحتلال، بيد أن حقيقة هذا النوع من الأسلحة كان افتراضاً اتخذه بوش حجة كاذبة لينجز ماادعاه لنفسه أنه «رئيس في زمن الحرب» أخذ على عاتقه أن يثأر لعجز والده، أو ما تسميه صحيفة الغارديان البريطانية في 2/12/2008 «حكمة عدم الرغبة» بإنهاء العمل الذي قام به عام 1991، بعد الآثار الكارثية لحرب الخليج الأولى. كيف يمكن لدولة عظمى، بل الدولة الأعظم في العالم أن تبني سياساتها على افتراضات، وهل يجوز لها أن تدمر بلداً مستقلاً، ومن مؤسسي «هيئة الأمم المتحدة» لمجرد الشبهة بامتلاكه أسلحة دمار شامل؟‏

كان بوش ورئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير ضالعين، والأجهزة التابعة لهما، في تلفيق الأكاذيب التي تبرر في اعتقادهم الحرب، التي اتخذ قرارها قبل أشهر من إعلانها، بل وقبل وقت طويل من مغادرة فريق هيئة التفتيش الدولية العراق. ولم يتم تجاهل ماأنجزته هذه الهيئات، وما زودتهما به أجهزة الاستخبارات من حقائق عن أن العراق لايمتلك أسلحة من هذا النوع، أو ما يتصل بها. وبدلاً من الاتفاق على تجريد العراق مما يمتلكه من سلاح ذهبوا إلى تغيير النظام. هذا ماأشار إليه /لندون لاروش/ في مقال افتتاحي في مجلة Executive Intelligence Review بل ذهب لاروش إلى القول إن توني بلير كان من يقف وراء عملية إقناع بوش في الذهاب إلى غزو العراق. ولايمكن تجاهل الدور الذي قام به ديك تشيني من عمليات تلفيق أقلها قصة اليورانيوم المستورد من النيجر.‏

والحقيقة التي تقال في هذا المجال هي أن بوش لايختلف عمن حوله من المستشارين ممن صدق الكذبة وتحول إلى مطالب بتنفيذ الجريمة وقد تكون الشعوب كالأفراد سهل خداعها، وقد يكون من السهل إضفاء القيم الخلقية على غزو العراق، والإعلان عن أن الرئيس الأمريكي أخطأ خطأ كبيراً، وقد لايذكر أحد دور توني بلير الذي انسل من الحياة السياسية ليعينه شريكه في الجريمة «ممثلاً للرباعية الدولية» الخاصة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مكافأة له على ما أداه من دور في قضية غزو العراق. وعليه فإن كثيراً من الناس يعترفون بأن وضع العراق الآن ليس أفضل حالاً مما سبق، فهو اليوم بلد تمزقه الصراعات الداخلية التي ماكان لها أن تكون لولا أن المجتمع العراقي قد دمر.‏

لاينبغي النظر إلى السياسة الأمريكية في العراق باعتبارها قضية منفصلة عما يجري في المنطقة، خاصة وقد أراد المحافظون الجدد من العراق أن يكون البداية لتنفيذ مستلزمات الشرق الأوسط الكبير، ولتكون مصر الجائزة الكبرى. فعندما ذهب ايهود اولمرت رئيس وزراء العدو المستقيل إلى واشنطن مودعاً بوش قال: شكراً أيها الرئيس.. لقد «وضعت عن كاهلنا هماً اسمه العراق».‏

وينبغي النظر أيضاً إلى العراق باعتباره جزءاً من مشكلة أكبر أناخت بكل أعبائها على ظهر باراك اوباما الذي يتعين عليه التعامل مع هذه المعضلة إن كان راغباً في تجنب الوقوع في أخطاء سلفه بوش.‏

ليس من المبالغة القول إن الولايات المتحدة ليست في حالٍ أفضل عما كانت عليه قبل ثماني سنوات. فهناك، على مايقوله جون ألترمان، رئيس برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية الدولية CSIS في واشنطن، طريقة سهلة للتعبير عن الوضع الراهن في الولايات المتحدة تقول: إن الذين سعت إدارة بوش وبشراهة لإضعافهم في المنطقة أقوى مما كانوا عليه في السابق.‏

ورفضوا الهيمنة الأمريكية التي دفع بها بوش إلى حد بات من المستحيل معه أن تستمر.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية