|
ثقـــافـــة ربما لهذا نكتب: نبحث عن القمم السابقة في حياتنا والذروات الجميلة أيضاً نقترف البوح بحق الماضي عبر مثل هذا المنطق حدث وأن أقر الأديب الألماني غونترغراس بأنه كان عضواً في قوات العاصفة التابعة للحزب النازي فاجأ الملايين من قرائه حيث كان قد عرف بآرائه اليسارية المعادية للحرب. غراس الحائز نوبل الآداب عام 1999 صرح أنه وقتها لم يشعر بأي ذنب فبالنسبة إليه لم تكن قوات العاصفة شيئاً مرعباً بل وحدة نخبة كانت ترسل دوماً إلى المناطق الخطرة وكانت لها سمعة أنها تعاني الجزء الأكبر من الخسائر. حدث ذلك التصريح قبيل صدور مذكراته الجزء الأول حيث ذكر بحوار مع إحدى صحف فرانكفورت أنه التحق بوحدات قوات العاصفة شتاء 1944- 1945 وألحق بفرقة دبابات وشملت خدمته مهمتي استطلاع خلف الخطوط الروسية لكن لم يكتب له إطلاق رصاصة واحدة قبل أن يخرج في نيسان 1945، عندما سئل لماذا تأخر كل هذا الوقت للبوح بالسر قال غراس: إنه كان عندما يتطلع إلى ماضيه كان يشعر بأمر جاثم على صدره لكن لا يمكن الحديث عنه (الأمر بأكمله عذبني، كان صمتي طوال هذه السنين من بين الأسباب التي جعلتني أصنع هذا الكتاب- يقصد الجزء الأول من مذكراته- وتطوعت في ذلك الوقت للانضمام لقوة الغواصات ولكنهم لم يقبلوني إلا أن كتائب الحماية المسلحة كانت تقبل كل المتطوعين صغاراً وكباراً وإذا قلت إني لم أكن أعرف شيئاً عن هذه الجرائم فهذا ليس بعذر). ويؤكد غراس أن ندمه كبير بسبب عدم طرحه لأسئلة كان يجب عليه أن يطرحها. قوات العاصفة كحرس شخصي لأدولف هتلر لكنها نمت لتصبح جيشاً حقيقياً بمليون فرد لديه قوات مدفعية ومدركات وكانت مسؤولة عما عرف بمعسكرات الموت وقد أعلنت كمنظمة إجرامية بنهاية الحرب العالمية الثانية. غراس الذي أثار ضجة في مذكراته بجزئها الأول وقد حمل عنوان (تقشير البصل) أثارت زوبعة من الاعتراضات والاحتجاجات والانتقادات لغراس الذي خبأ حقيقة انتسابه للنازيين ومؤخراً صدر الجزء الثاني حمل عنوان (الصندوق) صدر وسط أجواء هادئة وخلاف المتوقع تلقفه القراء بعيداً عن الضجيج السابق ربما لأنه خاف من التصريحات القوية وقرر أن يحكي عن محض ذكريات عائلية وعن عائلته المكونة من ثمانية أفراد وهنا ربما المفاجأة عادة الأدباء لا ينجبون الكثير من الأبناء ويتجنبون التأسيس لعائلات كبيرة لكن غراس فعلها وكانت المفاجأة بصدد الجزء الثاني من مذكراته أنه أب لثمانية أبناء. سبق أن قال لصحيفة دير شبيغل الألمانية: (أحسست على الدوام بالحاجة إلى الكتابة عن تجاربي في سياقها الأشمل يوماً ما ولم يتطور هذا إلا حديثاً بعد أن تغلبت على نفوري الداخلي من كتابة سيرة ذاتية في المقام الأول وهو نفور له علاقة بسنواتي المبكرة). غراس الآن في الثمانين ربما تعمد أن يكون هذه المرة كاتباً غير مثير للجدل؟. وعادة أمام الأسئلة المحرجة يفضل غراس إحالة قرائه إلى كتاباته لأنهم بذلك سيفهمونه أكثر بعيداً عن التعميمات الشاملة التي يكرهها ويكره مروجيها. واجه غراس حملات من الإدانة وصفوفاً مختلفة من الاحتجاجات وأصر على رؤية الجانب الإيجابي الذي أحدثته اعترافاته بشأن النازية: (كتب لي أشخاص كبار في السن أنهم تمكنوا للمرة الأولى من الحديث مع أطفالهم عن فترة الحرب بعد قراءة الكتاب كما قال لي شباب: إن الكتاب أعطاهم فرصة لطرح بعض الأسئلة على أجدادهم). غراس الذي قدم أعمالاً رائعة للأدب لعل أهمها روايته الشهيرة (طبل الصفيح) التي صدرت عام 1959 برر كتابة المذكرات بقول جميل يشبه كل ما كتبه في حياته: (لأن الذاكرة خداعة تحمل الماضي أو تلف حوله ستاراً كثيفاً من النسيان). |
|