|
ثقـــافـــة الفنان حسام الدين نزهة من منطقة الصفصافة في محافظة طرطوس جمع النقيضين في أعمال فنية رائعة حلق معها وبها من حيث جودتها ودقة الصنعة وبقي مغموساً بها ومعها بعطر البيئة التي أوحلت قدميه صغيراً وقسّت يديه شاباً ونامت في عينيه ذكرى ووجعاً وأملاً.. لم ينسَ (خضّة أمه) ولم يغب عن باله (مسّاس أبيه) وهو يهشّ به على ثورين أمامه ، (دَقّة الحنطة في الجرن) لها رنّتها في تكوينه. ومشهد (الجربوع) الذي تطفّل على جرّة النحل ليأخذ العسل كلَّه ما زال حاضراً، كل ذلك أوجد في داخله ذلك الفنان الباحث عن تفرّد نجح فيه وذلك الروائي الذي يرى بلاغته في إيجازه ومباشرته والأهم من ذلك كله أنه يرفض (التجارة) في أفكاره على وقع سؤال خرج منه: وهل يباع الولد؟ سألتُ حسام نزهة عن سبب اختياره الحجر البازلتي في منحوتاته رغم توفّر الحجر الكلسي الأسهل للنحت فقال: عشرة عمر.. أبي وجدّي وجدّ أبي تعاملوا مع هذا الحجر الذي كان عماد حياتهم وعملوا به كحرفة وكتجارة (حجر القصّ للبناء، حجر الطاحونة، حجر معاصر الزيتون القديمة، الجرن، الجاروشة..الخ) والحجر متوفّر بكثرة ويناسب مثل هذه الأعمال نظراً لقساوته وقلّة تأثره بالظروف المناخية ومع تطور الصناعة وطغيان الآلات الحديثة مكان هذه الأدوات كاد شغلنا أن يتوقف وانحصر ببعض الأعمال الصغيرة جداً، لذلك كانت الفكرة هي إنقاذ هذه الحجر وعدم التسليم بموتها، وبالوقت نفسه الحفاظ على مصدر رزقنا الذي ارتبط بهذا النوع من الحجر لعقود طويلة فكان انصرافي إلى الأعمال التزيينية من رحم هذا الحجر.. - كيف تفرّق بين حجر وأخرى وتعرف مدى صلاحيتها لفكرتك؟ -- صرتُ أعرف الحجر من (رنّتها). ومن خلال تعاملي الطويل معها صرتُ أفهمها فأعرف من أين آتيها وكيف أقسمها إلى نصفين متساويين مع أنني ما زلت استخدم الطرق القديمة (الإسفين). - رغم بساطة فكرة الأشياء التي تقدمها إلا أن جودة تصنيعها لافتة للنظر؟ -- تضحك إذا قلت لك: إنني أحادث الحجر، أسأله وأسمع جوابه ومن خلال سؤالي وجوابه أحاول استنطاقه وأقرأ تاريخه فأعرف كم جاراً مرّ عليه وكم حكاية رويت بجواره ومن خلال هذا الحوار أصل إلى فكرتي كما أن هذا الحوار يريحني أثناء عملي المضني،.. - وكيف تضع الروح في هذه الحجر؟ -- أعمل على محورين: الأول أحرص فيه ألا أنزع أبي وجدّي منّي. والثاني ألا أكون خلف هذا الحجر بل في صميمه. أتذكر وأنت تتذكر (الخضّة- خضاضة اللبن) وكيف أن أمي وأمك لا تنتهي من خضّ اللبن إلا وتكون قد وزعت الزبدة كلها، أليست حكاية فيها كل الطيبة والإنسانية وجديرة بالتدوين؟ هل من العدل شطب هذه المفردات الهامة من ذاكرتنا؟ أنا أحاول أن أرصد مرحلة ما من عمر ريفنا بأعمال فنية قابلة للبقاء... - في الأعمال التشكيلية يتحدثون عن دلالة اللون وعن عمق الفكرة ،....الخ؟ -- وفي منحوتاتي جانبٌ فلسفي وآخر أدبي.. عندما فكّرت بتحويل صخرة كبيرة حلقات سلسلة كبيرة تعمدت أن تكون هذه الحلقات خمساً دلالة على القارات الخمس باستقلاليتها من جهة وترابط مصالحها من جهة أخرى فلا هي كتلة واحدة ولا هي متباعدة فحررتها من جمودها كـ (صخرة) وأبقيت على ترابطها كـ (سلسلة)... هناك لوحة أخرى بأدوات بسيطة جداً وهي عبارة عن ثلاثة وجوه جانبية متصلة، بنظرة عامة على هذه اللوحة كاملة ترى صورة ملك بتاجه وبأغصان زيتون بعنقه وإذا ما نظرت إلى كل وجه بشكل منفرد فلن تتعذب في اكتشاف أنها ثلاثة أوجه لثلاثة حمير وبشكل متنافر وأعتقد أن للوحة دلالات خاصة جداً. - والمنحوتة التي تجسد فلاحاً وثورين؟ -- هي تعبير عن الامتنان لهذا الكادح الذي تعب كثيراً وليبقى في ذاكرة هذا الجيل فهو الأساس وليس (الجرار). - والضبّ (الجربوع) فوق جرة النحل؟ -- معروف لدى أهل الريف أنّ هذا (الجربوع) متطفل و(طميع) وقد جسّدته بشكل يحاول فيه أن يطوّق الجرة كلها في دلالة لطمعه وهذا المشهد يعرفه القرويون جيداً... - هل تعمدت أن تكون في بعض المنحوتات روايات كاملة؟ -- هذا صحيح.. أحاول أن أسرد حكاية بتفاصيل واضحة في كل عمل.. - والكلفة المالية لهذه الأعمال؟ -- كبيرة جداً. - والمردود؟ -- خلّيها على الله - سمعت أن مبالغ كبيرة عرضت عليك مقابل بيع هذه الأعمال؟ -- عُرض عليّ في إحدى المنحوتات (10) آلاف دولار. - ولماذا لم تبعها؟ -- قد أنجز في حياتي 10-12 عملاً جيداً فإذا بعتُ هذه الأعمال ماذا بقي لي من فنّي؟ أحزن لمجرّد التفكير ببيعها.. إنها كابني أتفقدها في الليل وأغطيها وأعيش بإحساسي معها فكيف أتخلّى عنها؟ - وهل ستبقى حبيسة مشغلك؟ -- أتمنى أن تجد لي بلدية الصفصافة مكاناً يحتويها بشكل يعبّر عن تاريخ ضيعتي.. - وهل يحزنك ألا يفهمك الآخرون؟ -- أزعل عليهم لا منهم، وبالمحصلة أتمنى أن تصل رسالتي للجميع لأني أحاول مخاطبة الجميع.. - وكيف تحكم على نجاحك؟ -- إذا امتلكت فكرة واضحة وأجدتُ في التعبير عنها.. - هل من شيء تودّ إضافته؟ -- يعتبرني البعض مجنوناً، وأنا أذكرهم بجميع عظماء الإنسانية (ولا أقارن نفسي بهم) فقد حكم الناس عليهم بالجنون لكنهم في النهاية قدّموا الفكرة وساهموا بتطوير البشرية وأنا أحاول مع الفكرة.. |
|