تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


والسؤال : متى تنتهي معاناة آلاف السكان هناك?

تحقيقات
الاربعاء 29/8/2007
محمد حسين

صعوداً إلى القدموس.. نودع مداخن بانياس بمحطتها الحرارية ومصفاتها التي تنفث غمامة من الدخان تحجب عنا البحر..تتحرك السيارة بهدوء لا يعكر صفوه إلا المطبات المتوزعة على الطريق في بلدة (برمايا) أو سواها من البلدات المتوزعة على جانبي الطريق..

الجو الخانق الذي دفعنا لتشغيل مكيف السيارة في طرطوس.. حرمنا تنشق الهواء الطبيعي مما دفعنا لإطفائه وفتح النوافذ.. كانت النسائم العليلة المائلة للبرودة قليلاً والخالية من الرطوبة ورائحة خبز التنور المنبعثة من التنانير البدائية المتوزعة على الطريق تملأ المكان والنسوة الخابزات الأكثر طيبة من المناقيش والخبز المحمص ورائحة الحطب.‏

روائح القمامة‏

مع اقترابنا من القدموس بدأنا نشم روائح مكب القمامة الذي بدأت قمامته تصل إلى الشارع الرئيسي, أتذكر الجولة التي قام بها السيد المحافظ إلى هنا ومطالبته بتسوير المكب وعزله عن المحيط ريثما ينجز المكب الرئيسي للمدينة.. ولكن لا شيء من ذلك تم.. وكذلك الانهدام في الطريق عند مدخل المشفى الذي مر عليه فترة طويلة والمدخل الرئيسي للبلدة (القدموس) أتذكر ما جرى جيداً.. حديث السيد المحافظ عن ضرورة الانتباه للمناسيب.. كل شيء على حاله الانهدام والمدخل.. وكأن شيئاً لم يكن.‏

وحده السور العملاق الذي يبنى حول قلعة القدموس للحفاظ على المباني التي تزنر خاصرة الجبل الذي تعتليه قلعة من الصخور المتهالكة والمتدحرجة, التي تسببت في حدوث بعض المآسي وتشريد بعض العائلات.. يبعث على التفاؤل.. الآن هذا السور قيد الإنشاء ونرجو أن ينتهي العمل به قبل موسم الأمطار.‏

نتابع صعودنا باتجاه القرى العطشى (مقصدنا) يقول أحدنا.. ريف القدموس من أفقر الأرياف في سورية, وحده مشهد الخزانات والصهاريج المركبة على الآليات الصغيرة والكبيرة كان رفيق السفر ذهاباً وإياباً.. ومن هنا بدأت الحكاية.‏

أحاديث العطش.. والألم‏

في ساحة قرية شمسين الصهاريج المتوقفة والسائقين المتجمعين وبعض النسوة.. الجميع بانتظارنا.. في لقاء مع بعض السائقين تحدثنا عن الماء.. ومن أين ينقل?!‏

>> يوسف محمود محمد, سائق أحد هذه الصهاريج قال: ننقل الماء من ريف مصياف /حماة/ من السويدة والبياضة وعقرب, وكم هي المسافة.. يجيبني 32 كم ذهاباً وأخرى إياباً, نقطع 64 كم كي نجلب الماء ويتسع خزاني ل 18 برميلاً أحياناً ننقل الماء غير الصالح للشرب.‏

> ولماذا تنقلونه?! للري أو للاستخدامات الأخرى?!‏

>> لدي بيت بلاستيكي أتناوب مع ولدي لنقل الماء من هناك فنحن نعيش على الزراعة.. أحياناً لاننام.‏

هذه المنطقة الجبلية والكلام للمحرر كانت تعيش لفترة طويلة على زراعة الدخان والآن بدأ الناس يحاولون إيجاد زراعات أخرى كالبيوت البلاستيكية التي تروى بالتنقيط لشح المياه هناك في الأعالي وهذه التجربة تحتاج إلى دراسة للمساعدة على نجاحها.. لأنها تساهم في محاربة الفقر ومنع الهجرة الداخلية.. ولكن ذلك لن يكون إلا بإقامة السدود التجميعية لمياه الأمطار.. مع العلم أن الحكايات التي يرويها الأهالي بهذا الشأن لا تبشر بالخير.. فهل يعقل أن المنطقة برمتها منطقة نفوذ ولا يمكن إقامة سدود بها وما هي الإجراءات التي تطبق في هكذا حالات, فمعظم الأهالي يجمعون مياه الأمطار ومنذ القدم.‏

>> أحمد محمود حبيب, سائق آخر قال: اتفقت مع صاحب أحد المسابح الخاصة في تلك البلدات وأقوم بنقل الماء منه لاستخدامه في سقاية المزروعات وأحياناً أبيعه لمن يريد.. وبكم تبيعه? 600 ل.س فخزاني يتسع ل 18 برميلاً.‏

>> مشهور محمود زيدو أيضاً سائق قال: الشرطة تمنعنا وتطاردنا قائلة إننا من طرطوس..‏

لكم أن تتخيلوا.. صهريج ماء غير صالح للشرب ب 600 ل.س وأكثر ونحن في منطقة نسبة الهطول فيها من أعلى النسب في سورية.‏

> وكم هو عدد الصهاريج?!‏

>> قد يصل إلى 80 صهريجاً يعمل عليها أكثر من مئة سائق.‏

مناهل بلا مياه‏

أما لمياه الشرب فحكاية أخرى فرغم الحديث عن افتتاح مناهل في تلك القرى.. إلا أن ذلك ظل حلماً فالمياه لا تأتي في تلك المناهل إلا ساعة أسبوعياً.. وهذا ماأكده الجميع, وهذا ما قاله لي أحد المواطنين حرفياً حين سألناه:‏

> إذاً من أين يأتون بمياه الشرب?!‏

>> لدينا نبع ماء صغير (نزازه) وينقل الماء منه على الحمير (بالراوي) والبيدونات ورغم أن الجميع يؤكد عدم صلاحيته للشرب إلا أننا نشرب منه والحامي الله.‏

وبالفعل كان مشهد الحمير التي تنقل المياه يذكر بالعهود الوسطى.‏

> والدولة ومؤسسة المياه والبلدية.. أين هم?‏

>> وحدة مياه القدموس (مافيا) فهي تبيعنا الصهريج ب 700 ل.س + 300 للسائق ورغم ذلك نحن لا نحصل عليه.. فالتسجيل تم منذ شهرين ولم يأت الصهريج حتى الآن.. السنة الفائتة كان حظي أن يأتي دوري في كانون أرجو ألا يأتي هذه السنة أيضاً في كانون فأنا لا أحتاجه في ذلك الوقت.. نحن نشرب من مياه الأمطار.‏

> ولماذا كل ذلك?!‏

>> لأن مؤسسة المياه توزع المياه.. فقط لثلاثة أسماء يومياً.. لكم أن تتخيلوا متى يأتي دور أحدهم في ناحية يتجاوز عدد قاطنيها الخمسة عشر ألف نسمة.‏

وكما عرفنا لاحقاً أن ذلك يعود لأسباب متعددة أهمها توفر المياه في القدموس وكذلك الكهرباء لتعبئة المياه في الصهاريج.. وكذلك توفر الصهاريج.‏

حدادة‏

تتشابه الأمور هنا إلى حد التطابق لكن اللافت هنا أن الأهالي أشاروا إلى مشكلة حقيقية وهي أن بعض المسؤولين حين يعددون القرى العطشى يبدؤون بإزالة اسم (حدادة) منها والسبب يعود إلى أن الشبكة في هذه القرية منفذة وحتى الخزان الرئيسي ولكن المياه لم تجر حتى الآن فيها إلا وقت تجريبها.. لذلك يطالب الأهالي بعدم إغفال اسم قريتهم عند الحديث عن القرى العطشى.. وكذلك هنا يوجد (نزازة) يشرب الجميع منها وهم أيضاً يرددون (الحامي الله).‏

بئر مياه حيالين .. المنقذ‏

»حيالين) اسم البلدة هذه كان الأكثر تداولاً على ألسنة جميع من التقيناهم في تلك القرى.. فنبع الماء الموجود هناك يحل المشكلة بنسبة كبيرة في حال السماح باستخدامه.. كما أكد الجميع.. فإذا كان الأمر كذلك فلماذا يمنع على المواطنين استخدامه?! وهذا المطلب قاله الأهالي أمام السيد نائب رئيس مجلس الوزراء خلال زيارته لبلدة الطواحين السنة الفائتة.. ووعدهم آنذاك بحل هذه المشكلة المستعصية.. والتي يتطلب حلها اجتماع المعنيين في محافظتي حماة وطرطوس.‏

وبالعودة إلى أرشيف مكتبنا في طرطوس وجدت محضر هذا الاجتماع مع قصاصة تفيد بأنه تم توقيع المحضر من قبل السيد وزير الإسكان والتعمير بتاريخ 4/6/2006 وأنه قد تم تعميمه على مؤسسات المياه المعنية في حماة وطرطوس للعمل به اعتباراً من 5/6/.2006‏

ولابد هنا من إلقاء نظرة على هذا المحضر حتى تكتمل الصورة..‏

فالاجتماع عقد بناء على توجيهات السيد نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية أثناء زيارته إلى محافظة طرطوس »قرية الحاطرية - منطقة القدموس) وتم انعقاده في هيئة تخطيط الدولة وبحضور مديري مؤسسات المياه في طرطوس وحماة والسيد معاون مدير الموارد المائية بحماة ومديرة تخطيط الإدارة المتكاملة للموارد المائية.. وتم خلاله مناقشة تأمين مياه الشرب للقرى العطشى في جرد القدموس (موضوع التحقيق) مع الإشارة إلى أن مؤسسة مياه طرطوس تقوم بتنفيذ مشروع إرواء هذا الجرد والذي سينتهي العمل به في نهاية الخطة الخمسية العاشرة حيث سيتم إرواء 25 قرية ووصلت نسبة المستفيدين إلى 53% هكذا حرفياً.‏

الآن وبعد مرور سنة على هذا الكلام لا يزال بحاجة لمن يعطيه القليل من المعنى.‏

وحقيقة لا تعرف أين هي هذه القرى حتى نعرف إذا كانت تشكل هذه النسبة الدقيقة جداً, ولكن ليس هذا هو المهم بل هو ما توصل إليه المجتمعون:تقوم مؤسسة مياه حماة بتأمين 100م3/يومياً لأغراض الشرب حصراً لإرواء العطشى ريثما يتم إرواؤهم من مشروع جرد القدموس حيث سيتم إرواء قرية الحاطرية هذا العام أي 2006 وخلال العامين القادمين من إحدى مشاريع (الحيلونة- بقراقة- الزينة) وفي حال استخدام هذه المياه لغير الشرب يوقف الاستجرار.‏

وعلى أن تقوم مؤسسة مياه طرطوس بتأمين الصهاريج اللازمة وتسديد قيمة المياه بسعر 10 ليرات للمتر المكعب إلى مؤسسة مياه حماة.‏

ويبدو أنه تم التأكد من استخدام الماء لغير الشرب فتوقف الاستجرار, فلم يتطرق أي ممن تحدثت معهم عن ذلك فصهاريج الماء القادمة من القدموس تتأخر شهرين حتى تأتي فكم هو الوقت حتى تأتي.. والسبب واضح وليس بحاجة للكشف.‏

ولكن حتى الآن ليست هنا المشكلة.. فأين بئر حيالين الذي يطالب به الأهالي?.. فمحضر الاجتماع يذكر أن الموضوع مثار أمام القضاء ويقترح الجميع ترك الموضوع له أي للقضاء.. ويبدو أنه لا يزال هناك.. ولأن الموضوع لم ينته هنا فيقترح المجتمعون ترك مشكلة المياه لأغراض الري للبيوت البلاستيكية في تلك القرى لمديرية الموارد المائية في طرطوس للمعالجة وفق القوانين النافذة.‏

ولكن هذه المشكلة لا تزال بلا حل حتى الآن.. فهل يمكن معاقبة الأهالي على تمسكهم بأرضهم وعدم الهجرة إلى المدينة? والبحث عن زراعة بديلة للدخان.. بأن نحرمهم من الماء لمساعدتهم على الحياة والاستمرار!!‏

ثمة حكايات عديدة أخرى من قرى جرد العنازة والقدموس كلها تعكس المعاناة التي يعيشها السكان القاطنون في تلك القرى.. بسبب أساسي هو العطش.. العطش.. العطش.. فهل من جهة تنهي معاناة آلاف السكان هناك?‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية