تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


إضفاءات عامة في منحى الحوار حول توزيع الدعم الاقتصادي

شؤون سياسية
الاربعاء 29/8/2007
د. أحمد الحاج علي

لعله من الحالات النادرة أن تطرح الحكومة موضوعاً اقتصادياً هاماً على الحوار وحينما يعتمد هذا الأسلوب في التفاعل مع القضايا الحساسة تكون الدنيا على أبواب الخير ولما يفيض الخير إليها بعد,

وأنبه سلفاً إلى مسألتين بذاتهما, الأولى أن الموضوع المطروح خطير للغاية وهو متصل بحياة الفرد والمجتمع بصورة عضوية وتداعياته تعديلاً أو تبديلاً تنعكس على الشرائح الأكثر فقراً في البلد والأكثر إنتاجاً وعطاء للبلد وهذا يعني أن من ينتج أصلاً لن يكون مجالاً للحسابات المادية وللتفكير الميكانيكي في متابعة الأرقام الاقتصادية الجامدة, إن شعبنا الطيب المنتج والمؤمن المحتسب يستحق أن نطبق عليه كل المعايير المعمول بها في دنيا المتحضرين حيث العدل في توزيع الثروة والرعايات الاجتماعية المتنوعة والبحث عن كل ما يؤمن للمجموع لقمة عيشه الكريمة ومقومات حياته في العمل والعلم وفي الصحة والسكن وفي نسبة مقبولة من الرفاهية.‏

ولنتذكر هنا أن الحاجات المطروحة على المجتمع السوري هي حاجات الحد الأدنى ويعرف الإنسان عندنا مقداره وقيمة وطنه معاً, يكتفي بالقليل ويستغني عن الاستهلاك الزائد, وما يحققه الأثرياء في سورية يومياً من جمع المال والحصول على القصور والشقق السكنية الفارهة واقتناء السيارات والإنفاق الاستهلاكي في المأكل والمشرب,وأمام ما يفعله الأثرياء في هذا المجال يكتفي بناة الوطن المعذبون في الأرض هنا بالاستمتاع وهم يتناقلون الأخبار عن هذا الوضع ويضحكون على جراحهم من خلال المسلسلات التلفزيونية ومع ذلك لا يتوقف الفقير عن العطاء ولا يتوقف المستغل عما هو فيه,‏

وأظن أن منطقاً كهذا هو حالة وطنية بمشاعر سامية عند شعبنا, هو ينتج ولا يستهلك, يعطي ولا يأخذ وفي اللحظة الخطرة يلبي الوطن بكل ما يحتاجه الوطن حرباً أم سلماً, انضباطاً أم اكتفاءً بينما لا يعرف الآخرون من الخارجيين عن قيم الوطن وطبيعة الشعب هذا المعنى السامي والجميل والمتكامل, لكن ذلك له حدود ومازال قطرنا منذ ما يقرب الأربعين عاماً يرابط عند هذه الحدود, أي يمنع حدوث كارثة انفجار الفقر والفقراء وهذه ميزة إيجابية نعيشها جميعاً وقد لا ندركها جميعاً,‏

لقد أردت أن أحدد المسألة ما بين خطيها الواضحين, خط التكوين الوطني والأخلاقي للشعب وهذا هو سر كبير من أسرار قوة النظام السياسي في سورية وخط التجاوز أو التمادي بقصد أو بجهل في إحداث المعادلة المضطربة ما بين الإنسان وثروات الوطن الاقتصادية, أما المسألة الثانية فهي أن الحوار حول إعادة توزيع الدعم كما هو الحال يجب أن يتجاوز الأسلوب الإعلامي إلى مساحة الحياة الشعبية كلها والحلقات متصلة وذاك هو المفيد, الحكومة تطرح الظاهرة وهذا أمر إيجابي, الإعلام يكتب عن الظاهرة وهذا جهد ضروري لكن صاحب الاستحقاق نفسه ومقياس الصحة أو الخطأ في أي خطوة اقتصادية هو الشعب وإعلامنا مازال رسمياً, يطرح العنوان ولا يقترب كثيراً من التفاصيل الحية والمؤلمة ولم نعتد حتى هذه اللحظة أن نأخذ بالمنهج الذي يعمل بموجبه الإعلام العالمي المتطور القوي في التأثير, مازال النقد لدينا مغامرة,‏

والمنهج الإعلامي موضوعياً وسياسياً يجب أن يأخذ الخيارات التالية:‏

-الأول هو أن الإعلام مع الشعب قبل غيره والشعب كما يقول أفلاطون في وصفه القديم لمسيرة الحضارة في هذه المنطقة (الشعب هناك على حق ولو أخطأ).‏

- الثاني أن الحكومة معنية بأن تعتبر نفسها مقصرة بقدر ما هي مسؤولة, إن المسؤول متهم حتى يبرأ نفسه والمواطن بريء حتى يدان قضائياً واجتماعياً.‏

- الثالث إن معايير الضخ الإعلامي في كل العالم تقوم على الحد الأعلى وليس على اللهاث والتوصيف الجامح حول التحسينات والتجميل والخطوات الطبيعية, إن أي كاتب إعلامي كان أم مثقفاً أم مواطناً لا بد أن يكتشف نفسه من خلال الرؤية الشاملة والارتباط العاطفي بالشعب وسلامة النية والقلب في تحليل الظواهر الاقتصادية, والظاهرة الاقتصادية كما وصفها (آدم سميث) هي كالدنياميت لذا لا بد أن تكون محاطة بالعلمية والدقة وبخبرة الواقع وباستشراف الانعكاسات والتداعيات المحتملة وباحتساب الموقف السياسي الحساس وعلاقة هذا الموقف في الإقليم وعلى المستوى الدولي, كان علينا أن نلتزم بشرطين أو بحقيقتين هما ما أشار إليه الرئيس القائد بشار الأسد.باستمرار حينما أكد على أولوية حياة المواطن الاقتصادية والمعاشية عبر نظام التوزيع العادل للثروة القومية وهذا عنوان كبير وخطير يستوعب الجزئية المطروحة الآن ولا يلغيها, وعبرة الاتجاه الضروري والضاغط لمكافحة الفساد وظاهرة الهدر الوبائية و(البواليع) التي اتسعت أشداقها وتوالد بعضها من بعض والحقيقة الثانية هي ذلك الموقف المبدئي والجميل والحي للرئيس بشار الأسد حينما أشار إلى موضوع رفع الدعم, إن كان ممكناً تحت البند السابع وبقرار من مجلس الأمن, كم كان إنساناً قائداً, إرادة صلبة ووعياً نفاذاً وموقفاً يعرف كيف يأخذ مشروعيته من خلال مساحة الحياة وليس من خلال إشكالية إرادية أو اقتصادية.‏

يقيض الله أحياناً للمجتمع لحظة معينة تصبح هي البوابة وهي المفتاح, وقد بلغ شعبنا من النضج والسمو ما يكفي للولوج من هذه البوابة إلى كل المنعطفات وأجزاء الواقع الاجتماعي والاقتصادي, ثم جاءت ظاهرة الرئيس القائد لتنجز مهمة حيوية وضاغطة بمنطق واحد وعلى مسافة واحدة من الشعب والحكومة وسوف تظهر آثار هذا المنسوب في المناقشات الراهنة والمحتدمة الآن, إن من المفيد والواجب معاً أن نتذكر معطيات ثلاثة قائمة فينا وإن حاول البعض تغييبها أو تمريرها كأمر واقع اعتاد عليه الناس:‏

- المعطى الأول تمثله حالة التناقض والانقطاع الطبقي, لقد تزايد عدد الأثرياء المجانيين ورحلت أعداد هائلة من أبناء الشعب إلى قاعدة الفقر المدقع ولقد تأكلت مستويات الطبقة الوسطى وبصورة بيانية كان المجتمع كالمعين أغنياؤه قلة وليكن, وفقراؤه المهمشون أكثر من قلة وكانوا موضع الاهتمام ونقطة الحضور الدائم على كل موازنة وخطة, الآن تحطم المعين وصار الاصطفاف الطبقي يشبه مثلثاً, الأغنياء فيه قلة وإن تظاهروا بالتكاثر وإن تبجحوا بأنهم متداخلون مع الدولة, كثيراً مانعلم ذلك لكن المسألة تتصل بالقاعدة العريضة من المحرومين وفي جوهرها وصلبها المثقف والإعلامي الشريف والموظف والفلاح والعامل والحرفي والفني.‏

- والمعطى الثاني هو حالة الربط والضبط بين المحاور الاقتصادية في علاقتها مع الموقف السياسي وأولويات الوطن وضرورات الأمن القومي, نحن لسنا في حالة مقطوعة منقطعة عن خط الحياة لنناقش كلمة في سطور أو جملة في كتاب ولا نراها في سياقها العام ولانتابع مدى تقبل محاور الحياة العامة لها.‏

-وأما المعطى الثالث فهو ما يؤكده علم الاقتصاد نفسه من خلال الوظيفة الاجتماعية للمال, نعم هناك ما يجب أن ينجز بالعمل والمردود بما يوازي الأجر لكن البعد الاجتماعي من خلال تأمين الأسرة وفتح الأفق في الحد الأدنى أمامها ورعاية الأطفال ومنع الانحراف عند الذكور والإناث كل ذلك يؤمنه البعد الاجتماعي في الاقتصاد,ونظام التأمين والرعايات في العالم المتحضر يسد كل هذه الثغرة والأسلوب الاقتصادي القائم على الضريبة التصاعدية لكبح جماح المهووسين, يسد هذه الثغرة أيضاً, إننا حتى هذه اللحظة نقترب من جموع البائسين نتوقع المشكلة فيهم ونبحث عن الحل في جيوبهم الفارغة وبطونهم الجائعة وما أروع الاستنجاد بكلام الخليفة عمر بن الخطاب في هذا المجال وهو يقول لو استقبلت من عمري ما استدبرت, لأخذت فضلة مال الأغنياء ورددته على الفقراء.‏

وما أعظم تلك الحكمة التي أطلقها الإمام علي وهو يقول إن الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن, وكم هي موحية حكمة المسيح عليه السلام وهو يرد على ذلك الثري الذي جاء طالباً أن يدخل في ملكوت السماوات عندها يقول المسيح إذا أردت أن تدخل في ملكوت السماوات فاذهب واردد كل ما تملك من مال إلى أصحابه الفقراء. الغريب أن مقولات تاريخية عقائدية هي من منطق أمتنا ومصادر تاريخنا يعمل بها الآخرون بلا حدود أو قيود وما زلنا نقع أسرى لجنون الاستغلال ونحاور ونداور ثم نجترح حلولاً لا علاقة لها بالمشكلة.‏

إن وطننا هو البداية والنهاية وسورية لا تجوع ولا تنهزم وفي كل مراحل التاريخ كان هناك هذا التوجه المتوازن نحو إنجاز بناء الذات قبل أي شيء آخر, إن الثروة موجودة وقد حبانا الله بها وأنتجها شعبنا بعقله وعرقه ودمه ولكن هناك من يسطو على هذه الثروة ولندقق في اللوحة الاجتماعية الاقتصادية, عندها سوف نتريث وسوف نتجه نحو الحل السهل والمتبلور وسورية وطن الاقتصاد العادل كما هي بيئة الموقف السياسي الشامل, وقد جاءت اللحظة التي يتوحد فيها الشرط الاقتصادي مع الموقف السياسي على القاعدة الكبرى لحاجات هذا الشعب وسمو تكوينه ورقة تعبيره عن الحال الصعب.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية