تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


بورخيس: جرأة الإبحار صوب الهامش..?!

كتب
الاربعاء 29/8/2007
(لا وجود لأساطير في هذه البلاد وما من شبح واحد يجوس خلال شوارعنا وهذا هو عارنا, إن واقعنا المعاش باهر, غير أن حياة خيالنا حقيرة وبونيوس أيريس الآن أكثر من مجرد مدينة,

إنها بلد, وعلينا أن نجد الشعر والموسيقا, والتصوير, والدين, والمتيافيزيقيا, الملائمة لعظمتها, هذا حجم أملي وأنا ادعوكم جميعاً إلى( أن تصيروا آلهة لتعملوا على تحقيقه).‏

يقدم إنتاج بورخيس النموذج الأمثل للأدب الارجنتيني إنه أدب جرى بناؤه, كالأمة الارجنتينية ذاتها, من مؤثرات مختلفة: الثقافة الأوروبية,والتراث الكريولي, واللغة الاسبانية بلكنة نهر بلاتي, والمكان الذي يقيم فيه بورخيس والذي اخترعه في دواوينه الشعرية الثلاثة الأولى المنشورة في العشرينيات.‏

هو ما سماه بورخيس (الحواف) لقد لعب بورخيس على كل معاني لفظة (حافة, ساحل, هامش, حد) حيث كانت لفظة (حافة) تصف أحياء الضواحي الفقيرة التي كانت تقع في جوار قريب إلى سهول البامبا التي كانت تحيط بالمدينة.‏

والتي كانت تعتبر عادة فظة, وفي كثير من الأحيان عنيفة, وهو الذي حافظ على كثير من أعراف وأنماط سلوك ماضيه الريفي في نظر بورخيس, تملك الحواف سمات اقليم خيالي, فضاء في الوسط بين السهول والمنازل الأولى للمدينة, وموقع طبوغرافي حضري -كريولي موضح في الصياغة التي صارت الآن كلاسيكية باعتباره الشارع الذي دون رصيف على الجانب الآخر.‏

وتتسع الحدود بين المدينة والريف عند الحواف عندما تصير هذه الأخيرة فضاء أدبياً, وفي الوقت نفسه تصير هذه الحدود مسامية.‏

والجدران الطينية ذات التجاويف (التي توضع فيها الزهريات والتماثيل): (الباحة التي تتحدى السماء /الباحة هي المنحدر/ الذي تصب السماء في المنزل تحته).‏

وتأتي العربات الصيفية إلى الحواف تفوح منها رائحة السهول كما أن الجدران القرنفلية الفاتحة والزرقاء السماوية, والمطلية بالجير الأبيض للمنازل الريفية هي أيضاً ألوان الحواف, وفي الحواف, وبصورة غير ملحوظة يصير تقاطع طريقين ريفيين, ناصية طريق.‏

تتطرق الكاتبة بياتريث سارلو إلى ما تسميه (مجازات الأدب الفانتازي) عند بورخيس, حيث تعد قصص بورخيس الفانتازية أحد الأسباب الرئيسية, وراء شهرته الأدبية.. والواقع أن قصصه القصيرة تقرأ منذ الستينيات.‏

والحقيقة أن قصصه الفانتازية ومقالاته الفانتازية تعالج على السواء ثلاث مجموعات من المسائل هي في آن معاً جمالية وفلسفية: مصادر المادة الأدبية, الاستراتيجيات التي تقوم عليها الحبكة والعلاقة بين اللغة والأدب والفن..‏

واستبق بورخيس الكثير من الموضوعات التي تستحوذ على اهتمام النظرية الأدبية المعاصرة (الإنتاج المتناص, الطابع الملتبس للمعنى, وهم المرجعية).‏

كما أن بورخيس قد أقام فن الشعر على أساس مزدوج من ناحية كانت هناك الحاجة إلى ابتكار حبكات مثالية مثل تلك التي اعجبته عند كتاب مثل كيلينج وستيفنسون اللذين كانا بمثابة مثالين لقاعدة جمالية مصممة من أجل تفادي طابع الفوضى وعدم التنظيم للواقع كما يحاكيه الأدب الواقعي.‏

وقد فضل بورخيس دائماً القصة القصيرة على الراوية كنوع أدبي, لأن التفاصيل غير الضرورية تثقل دائماً في رأيه على حبكة الرواية الحديثة.‏

واعتقد بورخيس أن الرواية لا يمكن أن تخلص نفسها من آثار مهما تكن طفيفة, مما هو واقعي, وكان الطول الذي تقتضيه قواعد النوع الأدبي أحد الأسباب وراء ضعفها .‏

إن طول الرواية بالمقارنة بالقصة القصيرة, يمثل قيداً شكلياً على كمالها, ولهذا أبدى بورخيس رأيه مراراً وتكراراً ضد الواقعية ومحاكاة الواقع باعتباره المرجع وأعلن مراراً وتكراراً سخطه على الأدب الروسي أو الواقعية الفرنسية والمذهب الطبيعي الفرنسي.‏

وكان يشكو من أن الروايات الروسية قدمت شخصيات تنهمك دائماً في سلوك متناقض وفي كثير من الأحيان سخيف, من قبيل انتحار البطلة لأنها تحس بالسعادة أو قتل شخص بدافع الحب, شخصيات مبنية على أساس نوع السيكولوجيات المعقدة التي يمكن أن يكتشفها أي قارىء بسهولة عند دوستوفيسكي.‏

وأكد بورخيس أن الروايات تتمحور على الشخصيات بدلاً من الحبكة وتميل بالتالي إلى تصوير مضطرب للحدث الذي يمنح الفراسة السيكولوجية قيمة أعلى من الكمال الشكلي.‏

لا غرابة في رأي بورخيس هذا بالرواية, فهو عرف عنه شغفه منذ الطفولة بقصص المغامرات مثل ألف ليلة وليلة, وبرأيه المتعة الحقيقية في قراءة الأدب هي تلك التي تستمد من قصص المغامرات على حبكة بالغة الاحكام بلا أي خيوط مهلهلة وبأدنى إشارة إلى دوافع وبواعث سيكولوجية عميقة وعلاوة على هذا فإن رواية المغامرات لا تواجه مشكلة (الطول) التي تؤدي دائماً -في رأي بورخيس- إلى حبكة ضعيفة.‏

كتاب (بورخيس كاتب على الحافة) جدير بأن يضعنا كقراء وجهاً لوجه مع بورخيس بكامل منظومة آرائه الشخصية, التي قد لا يوافقه عليها القارىء لكن الجدل هو الشيء الأجمل والممكن حدوثه بين كاتب مثل بورخيس وبين أي قارىء عادي.‏

الكتاب تأليف بياتريس سارلو, ترجمة خليف كلفت صادر عن المجلس الأعلى للثقافة -مصر- في 212 صفحة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية